العالم على شفا نسخة معاصرة من أزمة “الكساد الأكبر”

العالم على شفا نسخة معاصرة من أزمة “الكساد الأكبر”

لم يتجاوز العالم بعد تداعيات أزمة فايروس كورونا على الاقتصاد العالمي وأسواق المال، حتى داهمته أزمة انخفاض أسعار النفط. وبدأت هذه الأزمة كأحد تداعيات فايروس كورونا، حيث انهار الطلب على النفط في ظل التباطؤ الاقتصادي بسبب تفشي المرض، لينتهي بتصعيد بين روسيا والسعودية، ارتداداته على وشك أن تمزق اقتصادا عالميا يشهد تذبذبا منذ فترة.

روما – نجح فايروس كورونا في أن يحقق لأنصار الحدود المغلقة ودعاة العودة إلى “القبلية”، في مفهومها المضاد للعولمة، ما عجز عن تحقيقه أقوى الشعوبيين.

اليوم، بسبب انتشار كورونا، أغلقت الحدود الجوية والبحرية والبرية، وانكفأت الدول على نفسها تراقب بحذر هذا الفايروس القادم من الصين، والذي نجح في شلّ اقتصاد العالم، وهو على شفا حرب نفطية تزيد من تعقيد الوضع، حتى أن بعض المتشائمين صاروا يتحدثون عن “الانهيار الكبير”.

بينما تسارعت وتيرة إجراءات حظر السفر في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى عزل المناطق عن بعضها البعض وإبطاء محركات التجارة، وتسجيل البورصات العالمية تراجعا، هزت حرب أسعار شاملة بين عملاقين منتجين للنفط (روسيا والسعودية) الأسواق العالمية، حيث تراجعت الأسعار بأكثر من 30 في المئة لتصل إلى مستويات لم تشهدها منذ تسعينات القرن الماضي.

وبينما يربط أنصار نظرية المؤامرة ظهور فايروس كورونا بالحرب بين الصين والولايات المتحدة، تنخرط روسيا والسعودية الآن في لعبة مواجهة عالية المخاطر، لمعرفة من سينتصر في النهاية. وفي الحالتين يتابع العالم بتشاؤم ما يجري وتداعياته على الأسواق، معتبرا ما يمر به العالم اليوم نسخة معاصرة من فترة الكساد الأكبر (أزمة الثلاثينات). وقد كان تأثير الأزمة مدمراً على كل الدول تقريباً الفقيرة منها والغنية، وانخفضت التجارة العالمية ما بين النصف والثلثين، كما انخفض متوسط الدخل الفردي وعائدات الضرائب والأسعار والأرباح.

أزمة كورونا
تسبب الفايروس الذي انطلق من الصين قبل ثلاثة أشهر في وفيات في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، وأثّر الذعر على السوق العالمية، وانهارت اقتصادات العالم، ما أثر على المستثمرين في وول ستريت وغيرهم من المنتمين إلى السلاسل التجارية.

وزاد من وتيرة القلق إعلان منظمة الصحة العالمية عن تحوّل فايروس كورونا إلى وباء عالمي. وألقى الرئيس دونالد ترامب، الذي قلل من أهمية الفايروس على مدى عدة أسابيع، خطابا أعلن فيه عن وضع قواعد صارمة على السفر من معظم أوروبا.

وقال مسؤول الصحة ورئيس قسم علم الأوبئة للأمراض المعدية في سياتل ومقاطعة كينغ كاونتي، جيف دوشين، إن العالم أصبح في مواجهة واحد من أكبر الأمراض المعدية التي تعادل زلزالا كبيرا سيهزه لأسابيع.

وأصيب أكثر من 126 ألف شخص في أكثر من 110 دول بالفايروس الجديد. وسُجّلت أعلى الأرقام في أربع دول هي الصين وكوريا الجنوبية (أين تتراجع الحالات الجديدة المسجّلة) وإيران وإيطاليا. وتوفي أكثر من 4600 شخص في مختلف أنحاء العالم.

وقد تقلصت الحركة في أغلب مدن العالم؛ حيث صارت الشوارع فارغة وأقفلت المطاعم والمحلات، وتراجع عدد السياح. وأصبحت المدارس وأماكن العمل شاغرة، وألغيت فعاليات رياضية وثقافية. كما تم إلغاء الاحتفالات السنوية بعيد القديس باتريك في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأيرلندا. وبُثّت برامج تلفزيونية دون جمهور، واختفت حشود ساعات الذروة المعهودة في المحطات.

وحذرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من إمكانية أن يصاب ثلثا البلاد بالعدوى. وقالت خلال مؤتمر صحافي في برلين “لأن الفايروس منتشر بينما لا يملك السكان أي تحصين ولا وجود للعلاج، سيصاب ما يتراوح بين 60 و70 في المئة من السكان بالعدوى”.

وقال رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس إن تفشي فايروس كورونا “وباء يمكن السيطرة عليه إذا عززت الدول إجراءات التصدي له. طالبنا كل البلدان باتخاذ إجراءات عاجلة وصارمة. وقرعنا جرس الإنذار بصوت عال وواضح. بإمكان جميع الدول تغيير مسار هذا الوباء، إذا اكتشفت واختبرت وعالجت وعزلت وتعقّبت المرضى. نحن قلقون من مستويات الانتشار ومستويات التقاعس المقلقة”.

وتراجعت الأسهم يوم الخميس، بعد أن فقد مؤشر داو جونز الصناعي 1.464 نقطة، متراجعا بأكثر من 20 في المئة من آخر سعر قياسي حقّقه في فبراير مما جعله في منطقة مخيفة تسميها وول ستريت بـ”السوق الهابطة”.

سارعت الحكومات والبنوك المركزية إلى طرح حلول في مواجهة وباء فايروس كورونا، إلا أن الأسواق لا تزال تشهد هبوطا حادا في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد العالمي أكبر أزمة منذ 2008.

الخميس أعلن البنك المركزي الأوروبي عن إجراءات طوارئ للرد على أزمات فايروس كورونا وصدمة أسعار النفط وانهيار البورصات. وقد تجد دول كثيرة نفسها في وضع غير مستقر اقتصاديا، في خطر تضاعف حدوثه صدمة الزلزال الحاصل في أسواق النفط.

ويشير المحلل في مجلة فروين بوليسي جاسون بودوف إلى أن أزمة النفط الراهنة تختلف عن سابقاتها، لافتا إلى أن ارتدادات الزلزال الجيوسياسي الذي أحدثته يصل إلى ما هو أبعد من أسواق النفط والبورصات.

وفي ظل التباطؤ الاقتصادي الناجم عن تفشي فايروس كورونا الذي من المتوقع أن يتسبب في أول انخفاض سنوي في الطلب على النفط منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2009، انخفضت أسعار النفط بالفعل بنسبة 20 في المئة خلال الفترة التي سبقت اجتماع الأسبوع الماضي لمجموعة أوبك+، ومع اتضاح مدى انخفاض الطلب دفعت السعودية دول أوبك+ الأخرى إلى الموافقة على التخفيضات الحادة في العرض منذ أكثر من عقد.

وانخفضت الأسعار بعد انهيار المحادثات بين أوبك وروسيا مما دفع السعودية إلى شن حرب أسعار، وقد انخفضت أسعار خام برنت بمقدار الثلث تقريبا إلى 31 دولارا أميركيا للبرميل يوم الاثنين، وأخبرت شركة غولدمان ساكس الزبائن بأن السعر من الممكن أن ينخفض بسرعة ليصل إلى 20 دولارا أميركيا.

ويشير الخبراء إلى تسجيل تراجع في العقود الآجلة لخام برنت بنسبة 22 في المئة، وسجل سعر النفط الأميركي انخفاضا بحوالي 20 في المئة.

ويلفت تقرير لصحيفة فايننشيل بوست إلى أن مثل هذا الركود الاستثنائي، إذا استمر، من شأنه أن يخل بالميزانيات الوطنية من فنزويلا إلى إيران، ويهدد بتراجع صناعة الصخر الزيتي في الولايات المتحدة ويقلب السياسة في جميع أنحاء العالم. وبالنسبة إلى محافظي البنوك المركزية، يعد احتمال زعزعة الأسعار من التعقيدات الإضافية، حيث يحاولون نمذجة تأثير وباء كورونا على الاقتصاد. وقد تؤدي فترة طويلة من تراجع أسعار النفط إلى الإضرار بمكافحة تغير المناخ من خلال إبطاء التحول إلى الطاقة المتجددة.
l
وقال روهيتش داوان، مدير الطاقة والمناخ والموارد في مجموعة أوراسيا في لندن، “شيء من هذا القبيل يمكن أن تكون له تداعيات عالمية أكثر من الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة لأن النفط يلامس أشياء كثيرة في الاقتصاد العالمي”.

وهناك مستفيدون من تراجع أسعار النفط، من بينهم الصين، أكبر مستورد للنفط في العالم، والتي سيكون انتعاشها من الفايروس مفتاحا للاقتصاد العالمي. لكن هذه المرة تختلف عن سابقاتها؛ فالولايات المتحدة -التي كانت ذات يوم أحد المستفيدين من تراجع أسعار النفط- أصبحت الآن مُصدِّرة وليست مشترية. كما أن الإضرار بالاقتصاد العالمي جراء انتشار فايروس كورونا يبدد تأثير أي حافز قد يوفره تراجع أسعار النفط؛ حيث كانت مشكلات النفط، الآخذة في الارتفاع دائما مصدر قلق بسبب تأثيرها على التضخم. والآن في عالم يسعى فيه المصرفيون المركزيون بشدة إلى زيادة الأسعار، فإن الديناميكية المعاكسة تلعب دورا في ذلك.

وقال ويل هاريس، محلل في بلومبيرغ، “إن انخفاض أسعار النفط بشكل حاد لفترة مستدامة في ظل صدمة الإمداد من أوبك وصدمة كورونا يعني بالتأكيد أنه ستتم إعاقة أو إبطاء خطط التحول في الطاقة في شركات النفط الكبرى وطموحات المناخ، على الأقل على المدى القريب. وفي مواجهة تراجع أسعار النفط عند 40 دولارا أميركيا أو أقل، ستستعد هذه الشركات لمواجهة الأزمة. وستكون أولى الأولويات حماية الأرباح”.

يمثّل هذا الانهيار الحاصل في الأسواق العالمية ضربة لأسواق الائتمان، وذلك بسبب الحصة الضخمة لصناعة الطاقة من الأوراق المالية الأميركية ذات العائد المرتفع.

وتشير فايننشيل بوست إلى أن أوروبا والولايات المتحدة كانتا تتجهان نحو إصدار ديون جديدة، ولكن أزمة النفط الآن تهدد بإثارة ضغط تمويل مباشر إذا ثبت أن المقترضين المتعثرين غير قادرين على تجديد الديون المستحقة.

ولئن كانت صدمات النفط السابقة مدفوعة إما بالعرض وإما بالطلب، فإن انهيار الأسعار في عام 2020 أمر لم يعتد عليه تاريخ سوق النفط؛ إنه ناتج عن صدمة الطلب الهائلة وتراكم العرض الضخم في الوقت نفسه.

العرب