على الأرض، يجد السوريون أنفسهم تحت رحمة الطائرات الحربية الروسية؛ وفي “مجلس الأمن” الدولي، هم تحت رحمة حق النقض (“الفيتو”) الذي تمارسه روسيا. وإذا منعت موسكو أو عجزت عن توسيع القرارات الإنسانية التي توفر نفاذاً دولياً إلى سوريا من تركيا، فستعرّض 4 ملايين سوري لخطر المجاعة. وعندئذ، سيكون توزيع المساعدات في أيدي سلطات المخابرات السورية. وسيعاني المشردون (النازحون) داخلياً المصير نفسه الذي واجهه أولئك الذين حوصروا سابقاً، ومن المرجح أن تقتصر مواردهم على شبكات البعوض – والتوابيت. لقد بذل نظام الأسد جهوداً لإعادة بناء المناطق في الغوطة الشرقية وحلب التي طُرد منها السوريون أو هربوا منها، ولكن ليس هناك الكثير من المشردين داخلياً القادرين على العودة إليها، وأولئك الذين يحاولون القيام بمثل هذه الرحلة معرضون لخطر الاختطاف.
باختصار، يجري تسييس المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأمم المتحدة بشكل مخجل، رغم أن القانون الدولي يلزم الدول بتقديم مثل هذه المساعدة بغض النظر عن عملية “الفيتو”. غير أن روسيا والنظام السوري لم يلتزما قط بوقف إطلاق النار أو القانون الدولي خلال السنوات التسع الماضية، كما أن موسكو تخدع العالم من خلال اللجوء إلى أعذار مختلفة – فهي تبرر قصف المدنيين والمستشفيات بادعائها بأنها تحارب الإرهاب.
ومن جهتها، تعمل منظمة “الخوذ البيضاء” بشكل مختلف عندما يتعلق الأمر بتوزيع المساعدات الإنسانية. فنحن نموّه وجودنا بدلاً من التواصل بشكل علني مع بعضنا البعض. ولتجنب استهدافنا من قبل النظام، نكون مرغمين على تمويه سيارات الإسعاف التابعة لنا وتغطيتها بالوحل وبناء مستشفيات تحت الأرض – وحتى هذه الإجراءات ليست كافية لمنع استهدافنا.
وعندما طلبت الأمم المتحدة من المستشفيات توفير الإحداثيات للقوات الروسية لكي لا تتعرض للقصف، استُهدفت هذه المواقع فور إرسال المعلومات. وتَمثل ردّ الأمم المتحدة ببساطة بتشكيل لجنة استقصاء لإجراء تحقيق سري. ومنذ بدء الحملة العسكرية الروسية المستمرة في نيسان/أبريل 2019، تم قصف 100 مستشفى و 62 مدرسة. وفي حالة واحدة، تم قصف 8 مدارس في يوم واحد. بالإضافة إلى ذلك، استهدف الروس والنظام السوري 15 مخيماً للنازحين وحوالي 9000 منزل مدني من خلال شنهم ما يقدر بـ 100,000 غارة جوية، وباستخدامهم عشرات الآلاف من البراميل المتفجرة والصواريخ. وفّر حوالي مليون مدني خلال الأشهر الستة الأولى من الحملة، بينما فر مليون آخرون في الأيام السبعين الماضية وحدها. باختصار، تم تصميم الحملة لاستهداف البنية التحتية المدنية الحيوية.
وفيما يتعلق بإدلب، تتوزع حالياً إدارة القطاعين العسكري والأمني في المحافظة بين الجماعات مثل «هيئة تحرير الشام» و«الجبهة الوطنية للتحرير» المدعومة من تركيا، وهما السلطتان المحليتان الرئيسيتان. ويتمثل هدفهما الأساسي في وقف تقدم جيش النظام على الأرض. ومع ذلك، فإن السماح للفصائل المسلحة القوية بالسيطرة إلى أجل غير مسمى يمكن أن يقوّض المجتمع المدني. ومن الضروري وقف إطلاق النار للحد من سلطة هذه الفصائل ومشاركتها في الشؤون المدنية.
أما التعامل مع السلطات الفعلية، فيمثل مجالاً آخر من مجالات التركيز للـ “الخوذ البيضاء”. وينتشر حالياً حوالي 25,000 جندي تركي في إدلب. ونظراً إلى نسبهم إلى حلف “الناتو”، فإنهم قادرون على التعامل مع الوضع في سوريا والالتزام في الوقت نفسه بمعايير حقوق الإنسان. وإذا لم يكن المجتمع الدولي على استعداد لنشر قوات حفظ السلام في هذا الصراع، فيمكنه على الأقل دعم القوات التركية التابعة لحلف “الناتو”.
وفي الوقت الحاضر، يعاني الآلاف والآلاف من النازحين داخلياً في إدلب بشكل كبير بسبب عدم وجود مأوى لهم. وبالنسبة لأولئك الذين لديهم مأوى، فيمكن رؤية حوالي ثلاثين شخصاً يعيشون في خيمة مساحتها 4 × 4 متر. وتتكون بعض “الملاجئ” من بطانيات فقط تحت أشجار الزيتون. أما الاستجابة الإنسانية فتلبّي 25 بالمائة فقط من احتياجات الناس.
وإجمالاً، أصبحت المنطقة الحدودية الطويلة بين تركيا وشمال سوريا التي كانت تضم نحو 35,000 نسمة، تأوي حالياً حوالي 5 ملايين شخص. وفي عام 2015، كاد وصول مليون لاجئ إلى أوروبا أن يتسبب بإفلاس الاتحاد الأوروبي، فكيف يمكن التوقّع بأن تتعامل سوريا مع ما يقرب من 5 ملايين مشرد داخلياً، خاصة عندما تميل الأمراض إلى التفشي هناك خلال فترة الصيف؟
عمر الشغري
تشير التقديرات الرسمية إلى وجود حوالي 250 ألف سجين في سوريا، لكن الأرقام أعلى من ذلك بالتأكيد. وبصفتي سجين سابق، أتذكر أنني رأيت ما يصل إلى خمسين عملية إعدام في يوم واحد. وعندما تم تداول صور وتسجيلات لهذه الفظائع على الإنترنت وانكشفت مساوئ المشكلة للعالم، قرر النظام – الذي يراقب بانتظام وكالات الأنباء الأجنبية – التراجع عن بعض إجراءاته الأكثر تطرفاً، على الأقل لبعض الوقت.
وفي السابق، على سبيل المثال، كان من المعروف أن حراس السجون يزوّدون السجناء البائسين بكميات قليلة جداً من الطعام من أجل حثهم على الاقتتال للحصول عليها. ولكن ما أن جرى لفت انتباه الرأي العام، لاحظنا فجأة حدوث تغيير. فأصبح الحراس يجلبون لنا الكثير من الطعام لبعض الوقت، وتوقفت قوات الأمن عن تعذيب السجناء وإعدامهم. وفي ذلك الشهر على الأقل، تم إطعامنا بشكل كاف ولم نتعرض للتعذيب.
وخارج السجون، واصل النظام تطبيق سياسته الطائفية من خلال تشريد مجتمعات عرقية (إثنية) ودينية مختلفة (على سبيل المثال، إجبار المسيحيين على الاستقرار في المناطق ذات الغالبية المسلمة). ومع ذلك، فلم يأخذ النظام في الحسبان أن أشخاصاً من جميع الخلفيات موجودون معاً في السجن.
وفي موازاة ذلك، وبخلاف تركيا، تحاول معظم دول المنطقة والخليج العربي على ما يبدو تطبيع العلاقات مع بشار الأسد. ويساور هذه الجهات الفاعلة الإقليمية القلق من احتمال أنتشار الانتفاضات في بلد ما إلى العديد من البلدان الأخرى. وبالنسبة للشعب السوري، لا تشكّل المصالحة مع الأسد خياراً. ولا يستطيع الناس ببساطة نسيان الفظائع التي ارتكبها نظامه والجهات التابعة له، التي قتلت حوالي خمسين شخصاً في منزلي وأحرقت جثة والدي. ولم يعد لدينا إيمان بالنظام وبالتالي لا يمكننا الحفاظ على السلام معه. نحن لم نطلق هذه الثورة ونخسر العائلة والأصدقاء لمجرد المصالحة مع النظام.
رجاء التلّي
منذ عام 2011، يطالب الشعب السوري بالعدالة وحقوق الإنسان الأساسية. في المقابل، قامت قوات الأمن السورية بإطلاق النار على المدنيين، وقصف البلدات واستخدام الدبابات والأسلحة الكيميائية ضدهم. وفي هذا السياق، تستحق كل قصة نسمعها في “مركز المجتمع المدني والديمقراطية” وغيرها من المنظمات أن يَصغي إليها العالم والتصرف على أساسها. ولا بد من توثيق ما يجب على الناجين مشاركته، على غرار ما تم القيام به لفظائع الحرب العالمية الثانية. وبمساعدة المجتمع الدولي، من الضروري أن نعمل على إنهاء الجرائم التي يرتكبها النظام السوري. ندعو إلى محاسبة المسؤولين من خلال القانون الدولي.
كما أنه من الأهمية بمكان أن تساعد الأمم المتحدة السوريين على تحقيق حل سياسي يساهم في انتقال الدولة إلى الديمقراطية. وفي المقابل، من شأن تطبيع العلاقات مع النظام السوري أن يرجئ ببساطة مثل هذا الحل. وحتى لو حققت الحكومات الأجنبية مثل هذا التطبيع، سيظل الشعب السوري يطالب بالحرية والتوزيع السلمي للسلطة.
يجب على المراقبين أن يضعوا في اعتبارهم أيضاً أن النساء يلعبن دوراً أساسياً في الديناميكيات السياسية السورية منذ عام 2011. وفي بعض المجالات، تشارك النساء بشكل أكبر في المفاوضات. فمشاركتهن ضرورية، ليس لأنهن يشكلن نصف عدد السكان فحسب، بل لأن باستطاعتهن تقديم وجهة نظر مختلفة أيضاً.
وفيما يتعلق بالنزوح المستمر، لا يزال العديد من السوريين محاصرين داخل سوريا وخارجها بسبب سياسات النظام. ويفتقر معظم المشردين داخلياً حتى إلى معدات التعقيم الأساسية، لذا فهم بالكاد مستعدون لمحاربة فيروس الكورونا أو الأوبئة الأخرى.
نعومي كيكولر
على الرغم من أن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أمر بالغ الأهمية، إلا أنه ليس حلاً طويل الأمد للأزمة. وتواصل روسيا تعقيد العملية وتعريض المدنيين للخطر من خلال عرقلتها التوصل إلى قرار سلام أكثر شمولاً.
ويُركز مركز “سيمون سكجوت” و”المتحف لإحياء ذكرى المحرقة” على حماية المدنيين، ولكن لا توجد حالياً استراتيجية دولية أو أمريكية لإنجاز هذه المهمة الضرورية [في سوريا]. وبالمثل، لم تكن هناك استراتيجيات لإنقاذ الأرواح اليهودية خلال المحرقة. وعلى الرغم من إنقاذ بضعة آلاف من الأرواح من خلال أعمال فردية مختلفة، إلأ أن الملايين ماتوا [بسبب انعدام مثل هذه الاستراتيجيات]. واليوم، هناك العديد من الوسائل لإنقاذ حياة الناس في سوريا، ويمكن لوقف إطلاق النار الدائم أن يسهّل وسائل منع مقتل المزيد من المدنيين. وبغض النظر عن موقف صناع السياسة الأمريكيين تجاه سياسة واشنطن الشاملة بشأن سوريا، فإن الجرائم ضد الإنسانية هي قضية غير حزبية.
معهد واشطن