لم يحجب كابوس وباء «كورونا»، شاغل الكرة الأرضية برمّتها، المناوشات الجارية في العراق بين الجيش الأميركي والميليشيات العراقية الشيعية الموالية لـ«الحرس الثوري» الإيراني والتي خلفت مؤخراً ضحايا من الطرفين، ما يدفعنا إلى السؤال عن مسار تصاعد التوتر في بلاد الرافدين. فهذا الكر والفر الدائر يطرح جملة من التساؤلات؛ أولها حول اختيار إيران لهذا التوقيت لتأجيج العنف في العراق عبر أذرعها وهي اليوم في أمسّ الحاجة إلى من ينجدها من وباءين: وباء العقوبات ووباء تفشي فيروس «كورونا المستجد»، وكلاهما في ظل تدهور اقتصادي – اجتماعي ونزاعات سياسية داخلية لم تعد كامنة وانهيار لسعر النفط. وثانيها هو مستوى الرد الأميركي وحجمه والذي قد ينعكس حتماً على مستقبل انخراط واشنطن في هذه المنطقة.
بالنسبة إلى الدوافع الإيرانية، نبدأ بالإشارة إلى أن إيران مقتنعة بأن الرئيس دونالد ترمب لن يخفف الضغوط القصوى عليها في الوقت الراهن، ويبدو أنه لا يفكّر حتى في مساعدتها في هذه الأوقات العصيبة، علماً بأنها طلبت مساعدة صندوق النقد الدولي وهي العارفة سلفاً بعلاقته مع واشنطن. وتعرف إيران أيضاً أن إدارة ترمب تريد مثلها تماماً سحب قواتها من العراق وتستشعر أن المزيد من الضغوط على القوات الأميركية تحت عنوان الانتقام لمقتل قاسم سليماني قد يعجّل الجدول الزمني لهذا الانسحاب، ويمد إدارة ترمب بحجة إضافية للإقدام على هذه الخطوة بدون تداعيات عسكرية كبيرة عليها مع انشغال الولايات المتحدة بالحرب على العدو الفيروسي. ومع ذلك، وعلى الرغم من ذلك، يصح الافتراض أن إيران لا تريد انسحاباً أميركياً فورياً، بل تريد الاحتفاظ به كورقة تفاوضية رئيسة مع واشنطن تتخطى المعطى العراقي.
وما يعزز هذا الافتراض هو الاتفاق الذي أجرته إدارة ترمب مع حركة «طالبان» في أفغانستان والذي منحها شرعية في بلدها على أن تتنازل عن حلمها بإقامة إمارة إسلامية تكون حاضنة للإرهاب الدولي. ولعل إيران تسعى إلى اتفاق مماثل يعطي نظامها شرعية في الداخل مع استثناء واحد هو الحصول أيضاً على شرعية لوجودها في العراق فيكون ترمب قد سلمها مرة أخرى بلاد الرافدين على طبق من ذهب. وليس من السذاجة القول إن الشوكة العراقية لا تزال حتى اليوم في حلق النظام الإيراني، وبغضّ النظر عن حلم تصدير الثورة والتوسع الشيعي، ما تريده فعلياً هو إحكام السيطرة على هذه الحديقة الخلفية التي لطالما اعتبرتها مهددة لها.
في المقلب الأميركي، لا نستغرب أن يقْدم ترمب على اتفاق مماثل؛ لا سيما أن استراتيجيته الأساسية تقوم على سحب قواته من مناطق النزاع في المنطقة، أو أقله إعادة التموضع بما يرضي إيران عبر تسوية غير مباشرة. وتجدر الملاحظة أن واشنطن غالباً ما لا تستعجل الرد على الهجمات التي تستهدفها، وهي اليوم متريثة أكثر من أي وقت مضى وتضع الأوضاع الداخلية العراقية تحت المجهر. ولعل أكثر ما يهمها اليوم وهي قاب قوسين من الانتخابات الرئاسية، هو تمرير تكليف عدنان الزرفي لتشكيل حكومة خلال شهر، وسط معارضة واضحة من حلفاء إيران في العراق بحجة أن تعيينه مخالف للدستور، أو أنه مؤيد للاحتجاجات الشعبية المنددة بهيمنة طهران على البلاد، أو تحت ذريعة الفساد أو علاقته الوثيقة بأميركا، ووصل الأمر بإحدى الميليشيات إلى التهديد بقلب أي حكومة يشكّلها. أما مقتدى الصدر، فلا يزال موقفه ملتبساً وغير واضح، علماً بأن علاقته باردة مع الزرفي ويتهمه بأنه لم يحرّك ساكناً يوم ضُرب في النجف عام 2004 إبان الدخول الأميركي إلى العراق، وفي المقابل، يتهم الزرفي «القبعات الزرق» التابعة للصدر بقمع المتظاهرين في حركة الاحتجاجات الأخيرة.
هذا الارتباك الذي تتخبط فيه الفصائل العراقية الشيعية لم يغب عن العين الأميركية، كما لم يغب عنها أنه انعكاس لارتباك في الداخل الإيراني. فالضربة الكبرى التي شكّلها مقتل سليماني تزامنت مع ضربة إشهار غالبية العراقيين بطوائفهم كافة رفضهم لوجودها في بلادهم، وتبعها فشل محاولات الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الأدميرال علي شمخاني، في معالجة الصراع على السلطة بين مختلف الميليشيات العراقية الموالية لطهران وما تشهده من تفكك وانشقاقات، إلا مؤشرات على وطأة الضربتين على إيران. يضاف إلى ذلك سبب رئيس في عجز إيران عن تنظيم البيت الشيعي في العراق وهو فشلها الذريع في توسيع نفوذها الديني فيه وسط إصرار حوزة النجف على البقاء مستقلة مالياً وعقائدياً عن نظام الملالي. ولعل تجرؤ الصدر على انتقاد فتوى المرجع الأعلى في العراق علي السيستاني بعدم إقامة صلاة الجماعة درءاً لانتقال عدوى «كورونا»، تدخل في هذا السياق.
أما في الداخل الإيراني، فقد ظهّرت أزمة تفشي فيروس «كورونا» النزاع بين سلطة الدولة ومؤسساتها وبين السلطة الموازية ومنظماتها التي عمل المرجع الأعلى الإيراني علي خامنئي لعقود على إنشائها. فالعسكريون وعلى رأسهم قائد هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الجنرال محمد باقري، يزاحمون الرئيس حسن روحاني في صلاحياته، وما رفضهم تكليف وزارة الصحة لإدارة هذه الأزمة وإسناد هذه المهمة إلى منظمة الدفاع السلبي الذي يشرف عليها باقري سوى خير دليل على ذلك.
وفي ظل هذه المشهدية، يبدو في المحصلة النهائية أن طهران وواشنطن تتلاقيان عند أكثر من تقاطع في العراق. فالعاصمتان تديران قواعد الاشتباك بينهما وتمارسان ضغوطاً متبادلة مدروسة دون تنفيذ ضربات قاتلة، اللهم إلا إذا استثنينا اغتيال سليماني، وذلك على خلفية رغبة مشتركة في انسحاب أميركي من العراق والتوصل إلى اتفاق بينهما، يعطي الطرفين متنفساً هما في أمسّ الحاجة إليه.
يبقى أن المطروح اليوم أمام الجميع هو أيُّ عراق بعد الانسحاب الأميركي؟ وهل إيران قادرة حقاً على ملء هذا الفراغ؟ وهل العراقيون أنفسهم قادرون بمكوناتهم كافة وطوائفهم المختلفة من سنة وشيعة وأكراد أن يملأوا الفراغ بعد الانسحاب، أم أن شبح مقديشو التي نهشتها الأحقاد ولا تزال بعد الانسحاب الأميركي من الصومال عام 1993 جراء مقتل الجنود الأميركيين، يَلوح في أفق مستقبل العراق؟
هذه الأسئلة تحرّكها الخشية من أن يجد الرئيس الأميركي في تسوية أميركية إيرانية حول العراق مساحة وحيدة متاحة قد تعوّض ما قد يخسره جراء تداعيات أزمة «كورونا» على الاقتصاد وأرقام البطالة في أميركا، وكلها كانت أوراقاً رابحة في سباقه مع المرشح الديمقراطي.
لن يغيب عن أحد في السياق نفسه دلالات إطلاق عامر الفاخوري المتعامل مع إسرائيل في لبنان والطريقة إلى هُرّب فيها إلى أميركا. كما الإفراج عن الأميركي المعتقل في إيران مايكل وايت والحديث عن معتقل ثالث في سوريا قد يلحق بهما.
سام منسي
الشرق الاوسط