تعد إيران بؤرة الانتشار الأساسية لفايروس كورونا المستجد في الشرق الأوسط. وأصاب الوباء إيران إصابة قاسية. فقد تجاوز عدد الحالات المسجلة حتى التاسع من أبريل 66 ألفا، بينما تجاوزت حالات الوفاة 4100 شخص (بالرغم من أن كثيرين في إيران يعتقدون أن الأرقام الفعلية أعلى بكثير)، مما يضعها في المرتبة الخامسة عالميا.
وبرز منذ فبراير الماضي التخبط في إدارة الأزمة ولوحظ قفز الحرس الثوري ليلعب الدور المركزي على حساب حكومة الرئيس حسن روحاني. وللوهلة الأولى كان يصعب التكهن بمدى تأثير انتشار الوباء على الشؤون الدولية. ومنذ أواسط مارس أخذ الحكم الإيراني يمارس سياسته المزدوجة في مسعى لكسر العقوبات الأميركية إذ طلب روحاني وللمرة الأولى منذ ستين عاما مساعدة صندوق النقد الدولي لبلاده مع توجيه إشارات إيجابية نحو واشنطن، فيما كان آية الله علي خامنئي يتهمها بشن “حرب بيولوجية”.
وهذا يطرح التساؤل عن إمكانية تغيير سلوك دولتين خصمتين – الولايات المتحدة وإيران في هذه الحالة – تحت ضغط الأزمة الطارئة. يتوقف الأمر في المقام الأول على مسار الوضع داخل إيران والتجاذب الحالي في العراق وتطورات الوضع الداخلي الأميركي في هذه السنة الانتخابية التي هيمنت عليها كارثة كورونا.
على خلاف غالبية الدول الأخرى التي تحركت بسرعة لمواجهة انتشار الجائحة بشفافية وحزم، تؤكد مصادر إيرانية متطابقة عن بدء الانتشار في النصف الثاني من يناير الماضي، في موازاة استمرار خطوط الرحلات الجوية مع الصين تبعا للصلات المميزة بين البلدين. وهكذا بالرغم من علم السلطات بحقيقة الموقف تجاهلت السلطات التحذيرات و”ضللت الجمهور عمدا لمنع تداعيات الوباء من التأثير على احتفالات الذكرى السنوية للثورة في 11 فبراير، والانتخابات البرلمانية في 21 فبراير”.
ومن الواضح أن التأخر في اتخاذ إجراءات سريعة ومنها الإغلاق من قم إلى طهران ساهم في المزيد من الانتشار وكما في العديد من دول العالم لكن بشكل صارخ تبيّن عدم وجود البنية التحتية الصحية الضرورية والهيكلية الإدارية الفعالة نتيجة التركيز على أولويات أخرى وأبرزها الميزانيات العسكرية في الداخل والخارج. ولا تكمن المشكلة في نقص المال والموارد بسبب العقوبات الأميركية حصراً كما يدعي النظام، لكن هذا لا يغفل سوء توزيع الموارد الموجودة وأساليب استخدامها.
والغريب أنه بينما يتحرك العالم لمكافحة الجائحة، تتهم المعارضة الإيرانية السلطات بإخفاء حجم الكارثة والتقليل من عدد الضحايا وتتفق مصادر طبية إيرانية محايدة مع هذا الاتهام وتتحدث عن حوالي عشرين ألف ضحية حتى الآن. ومن أجل الهروب إلى الأمام وتوظيف أزمة الوباء سياسيا، يتم التركيز على أن العقوبات الدولية هي السبب الجذري لنقص إيران في الموارد الطبية والمعدات، وكذلك خيارات العلاج والأدوية.
وكل ذك يهدف إلى خلق تصدعات في جدار العقوبات والتصويب على واشنطن خاصة أنه ستكون للولايات المتحدة، التي هي عضو مهم في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، كلمة قوية في قرار منح إيران أو عدم منحها القرض المطلوب، وهو بالنسبة للكثير في إيران مجرد مسعى للتخفيف من مشكلة التدفق النقدي، ويمثل ذلك رهانا لفريق روحاني – ظريف “المعتدل” عله يمكنه من تسجيل نقاط في الصراع الخفي مع الفئة الأكثر تشددا المتحلقة حول المرشد الأعلى علي خامنئي ونواتها الصلبة الحرس الثوري الإيراني.
ومشكلة الحكم الإيراني مع السيولة النقدية زادت مع انهيار أسعار النفط مما سيعرض النفقات الأساسية للتهديد ومنها الميزانيات العسكرية والأمنية في الداخل والدعم المرصود لمجمل أنظمة وجماعات “المشروع الإمبراطوري الإيراني” في الإقليم. ومن الأسباب الأخرى لمسعى طلب القرض الدولي ومحاولة “إغراء” الترويكا الأوروبية (ألمانيا – فرنسا – بريطانيا) كي يتم تفعيل فتح خط ائتمان سنوي بقيمة 15 مليار يورو من الاتحاد الأوروبي لإيران تحت حجة تخفيف آثار العقوبات الأميركية.
لكن ذلك يمثل بالفعل احتياطا لتأمين الحد الأدنى الاجتماعي والاقتصادي ولتفادي عودة الاحتجاجات الشعبية بزخم بعد انتهاء زمن كورونا. ومن المناورات الإيرانية في هذا المضمار إبراز تناقض في المواقف حيال الصين التي يتهمها البعض في وزارة الصحة بإخفاء حجم الكارثة وسرعان ما ينبري الحرس الثوري للدفاع عن دورها ومساعداتها، وينطبق الأمر أيضا على روسيا التي اكتفت بعرض بيع ميسر لمنتجات روسية، وكل ذلك من أجل توجيه رسائل حول تنوع البدائل والشركاء إلى الحزب الديمقراطي وآخرين في واشنطن ودول أوروبية. وهذا اللعب على الوتر الإنساني لا يقنع كثيرا من الأطراف ويثير “حذر” إسرائيل التي عبرت عن مخاوفها من أن “تستغل إيران الجائحة في تطوير البرنامج النووي”. لكن على ضوء ما يجري في العراق تحديدا تقر مصادر أوروبية وأميركية بزيادة “العدوانية الإيرانية” للتغطية على المتاعب الداخلية، ويشير باحث مختص بالعلاقات الصينية – الإيرانية إلى “احتدام الصراع العالمي حول إيران نظرا لهشاشة الوضع فيها بالرغم من قدرات النظام القمعية”.
وما يعطي مصداقية لمثل هذا التصور مراقبة صدور أصوات خبراء في الولايات المتحدة تدعو إلى منح إيران ما تحتاجه، بل تحض إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على اتباع نهج أكثر رأفة في التعامل مع أزمة الوضع الصحي في إيران بصفة عامة، ووصل الأمر بديمقراطيين بارزين بينهم نائب الرئيس السابق والمرشح الرئاسي السيناتور جو بايدن والوزيرة السابقة مادلين أولبرايت للمطالبة بتخفيف الضغط على طهران.
ومن المبررات المطروحة من قبل هؤلاء كما من قبل أنصار الانفتاح على إيران في أوروبا أن الضغوط القصوى سيكون أثرها سلبيا وخاصة استنتاج تتقاسمه هذه الأوساط يقول إن “الحرس الثوري الذي يشرف على مواجهة فايروس كورونا وبناء المنشآت الصحية في البلاد، سيزداد قوة على قوة. وستتحول إيران رويدا من دولة دينية في ثوب جمهوري إلى دكتاتورية عسكرية”.
وهذا الوضع الدقيق ربما يفسر تحمل الرئيس حسن روحاني مخاطر تفاقم الكارثة الصحية وقبوله ببدء رفع إجراءات الحجر والإغلاق من أجل إنقاذ الاقتصاد المتداعي وتفادي عودة غضب الشارع أو مزايدة المتشددين. لكن مصادر أوروبية مطلعة على الوضع الإيراني تجزم بأن “الحرس الثوري حسم الوضع لصالحة إن في مواجهة تيار روحاني أو إزاء مكتب خامنئي الذي يعتبر نجله مجتبى لولبه”.
هكذا بعد الضربة الكبرى التي تلقاها النظام مع خسارة قاسم سليماني، وتفاعلات حادث الطائرة الأوكرانية والانتخابات التشريعية الفاشلة واحتجاجات نوفمبر 2019، أتت أزمة كورونا لتعمق من أزمة النظام البنيوية ولم يجد المرشد علي خامنئي للتبرير إلا قوله: “سجل الشعب الإيراني تألقا في اختبار كورونا” مع التشديد على أن “قرصنة المساعدات الإنسانية والتمييز بمعالجة المرضى تعكس ثقافة الغرب”.
بينما تطالب حكومته بالمساعدات من الغرب عبر صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. وهذا يبرهن على السياسة المزدوجة للحكم في طهران، ولعبه على كل الحبال من أجل استمرار الإمساك بالسلطة والسيطرة على الشعب الإيراني بمكوناته والترويج للتوسع في الإقليم. ما بين الحرس الثوري وروحاني وإدارة ترامب ستستمر لعبة من دون قواعد لأننا لسنا أمام دولة عادية في إيران بل أمام منطق “الثورة” التي يقول أحد الذين عاصروها إنها “أكلت أبناءها وتهدد الاستقرار العالمي” .
د. خطار أبودياب
العرب