في زمن جائحة كورونا، ومخاطرها الصحية، ارتأى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وضع كمامة على وجهه، والقيام بزيارة متعجلة خاطفة إلى دمشق، هي الأولى له منذ عام، حيث التقى خلالها الرئيس السوري بشار الأسد، ووزير الخارجية وليد المعلم. وكما حصل إبان زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى سوريا، بعيد مقتل قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، أطلقت المخيلة لكثير من الروايات والتحليلات حول مغزى زيارة ظريف وخلفياتها، لتصل معظمها إلى خلاصة تفترض وجود خلاف بين موسكو وطهران. ولم يتوانَ القائلون بها عن توثيقها مستندين إلى مصادر روسية مقربة من وزارة الخارجية أو الكرملين تنتقد بشار الأسد ومن حوله، لا سيما أنه ليس من عادة وسائل الإعلام أو المراكز البحثية الروسية نشر معلومات وتقارير تخالف وجهة النظر الرسمية الروسية.
فهل هناك حقاً خلاف روسي – إيراني؟
الإجابة عن السؤال تفترض بنا النظر إلى سياقات زيارة ظريف من ثلاث زوايا. أولاً: من زاوية السياسة الخارجية الروسية، ونطرح هنا احتمال أن يكون قد حصل مستجدات في الموقف الروسي، أي حدوث أي تطور رئيس فعلي ملموس في المنطقة على المستوى الاستراتيجي دفع -أو يدفع- روسيا إلى حشر الإيرانيين في الزاوية، أو حضّهم على الخروج من سوريا، أو إطاحة الرئيس الأسد، والإتيان بشخصية أخرى ترأس البلاد. فهل وقع مثل هذا التطوّر حقاً؟
في الحقيقة، ومنذ عام 2015 حتى اليوم، لم تتبلور لدى الروس أي صيغة واضحة للحلّ في سوريا، باستثناء التمسك بالنظام السوري، وببشار الأسد رئيساً، والدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية في موعدها، وذلك رغم معرفتهم بحقيقة كواليس دمشق، وما يحيط بأهل النظام وبطانته من فساد وممارسات مافياوية في المال والسياسة معاً. وعلى ما يقال، فهم يراهنون حتى على إمكانية التمديد للأسد، وكل هذا وسط محاولات حلّ حثيثة تحتاج إلى جهد كي نتمكن من وصفها بالجديّة، على غرار سوتشي وآستانة ومحاولات وضع مسودة دستور جديد للدولة السورية.
هذه المحاولات تصبّ في خانة الرغبة الروسية في المحافظة على الستاتيكو القائم، أي إبقاء الأسد رئيساً، ودعم النظام في المناطق التي يحكمها، هذا مع العلم أنه تمّ التوافق، وبشيء من الجدية، مع الأتراك، ما جعل أنقرة مرتاحة على وضعها في سوريا، حتى أنها حوّلت في مواقع عدة مراكز المراقبة إلى شبه قواعد عسكرية، وبدأت بتنظيم الجماعات الإسلامية في المناطق التي تقع تحت سيطرتها. هذا التسليم الروسي بالدور التركي لا يختلف في الحقيقة عن التسليم الروسي بالدور الإيراني في دمشق، والدور الأميركي في المناطق الشرقية.
وعلينا ألا نغفل أيضاً شبه التفاهم الذي عقدته مع إسرائيل، حيث ينصبّ دورها على توجيه ضربات إلى قوافل السلاح، وبعض القواعد العسكرية التابعة للحرس الثوري الإيراني والقوات الموالية للنظام، وليس خفياً في هذا السياق أن موسكو تبدو مرتاحة إلى حدّ ما إلى هذه الصيغة، بخاصة مع تعذّر التوّصل إلى حلّ حاسم جدي للانطلاق بحملة دولية لإعمار سوريا، وإعادة المهجرين التي باتت متعثرة وأكثر صعوبة في ظلّ الظروف الاقتصادية، لا سيما المستجد منها السائد بسبب جائحة كورونا، وعدم قدرة موسكو اقتصادياً على تحمل وزر الهم السوري وحدها. وهنا، لا يجدر التقليل من أهمية معارضة الولايات المتحدة لأي تسوية تتجاهل مصالحها. على الأرجح، يبدو أن موسكو راضية عن ترك الأمور على ما هي عليه، وأقصى ما تهدف إليه، عبر هذه المقالات وغيرها، ابتزاز الأسد والضغط عليه كي لا يخرج عن الخطوط المرسومة له، علماً بأنها قد تكون مستعدة للمساومة عليه، لكنها لم تجد الشاري بعد.
في الخلاصة إذن، ليس هناك من متغيرات أساسية تدفعنا إلى القول إن هناك اختلافاً جذرياً من المنظور الروسي، رغم وجود تباينات بين الحلفاء على الأرض السورية. ويبقى أن الثابت الذي يجمع موسكو وطهران هو مقاومة الوجود الأميركي والحد منه، أو إضعافه في سوريا، وفي المنطقة بعامة، وطبعاً محافظة كل جانب على مصالحه فيها.
ثانياً: من زاوية الموقف الإيراني. رغم كل ما تتعرض له إيران من عقوبات أميركية قاسية، يضاف إليها ما استجدّ من أزمات بسبب جائحة كورونا أضعفت النظام وانتقصت من هيبته، إلى الأوضاع التي يعيشها كلّ من العراق واليمن ولبنان، والتي شكلت هنات في جسم حلفاء إيران وساحات نفوذها في الإقليم، لا يبدو أيضاً أن ثمة مؤشراً واحداً على تغيير أساسي في سياسة إيران ودورها في سوريا أو في لبنان. فقبول إيران مرغمة بترشيح مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة لا يعني أبداً أن ينسحب موقفها المتساهل هذا على سوريا ولبنان، لأنَّ أي تراجع إيراني في هاتين الدولتين، وانكفاء النظام إلى الداخل، سيؤدي إلى اهتزازه، بل ارتفاع فرص سقوطه، وإطلاق مرحلة من الفوضى، ليس في الداخل الإيراني فحسب، بل أيضاً في مناطق نفوذ طهران في الخارج، وتلك القريبة من الحدود مع روسيا، ما قد يشعل المنطقة، وهذا أمر يجزم المتابعون أن موسكو وواشنطن لا ترغبان به، أقله راهناً.
ثالثاً: من زاوية النظام السوري. في الحقيقة، ما يزال النظام يمتلك حيثية قوية متماسكة داخل المناطق التي يسيطر عليها، بحيث يصعب على حليفيه الروسي والإيراني الضغط عليه بشكل كبير. فهذا النظام ذو بنية قوية، رغم كلّ ما تعرّض له خلال سنوات الحرب، وذلك لأسباب وعوامل قد نذكر منها هنا تجذّر الدور الاستخباراتي في الحياة السورية، والخواء الذي أفرغ كل مظاهر الحياة السياسية والمجتمع المدني، والضعف المستفحل للمعارضة المشتتة، والتسامح الغربي المعتاد. وبالتالي، ما يزال النظام يتمتع بالقدرة على الصمود، واللعب على تناقضات الحلفاء متى وجدت، وجعلها تصبُّ في مصلحته.
ولا بدّ في هذا الإطار من الالتفات إلى الجهات التي تُفرحها أخبار التباينات والخلافات بين موسكو وطهران، لنسأل: هل ثمة حقاً فوائد مرجوّة من مثل خلاف كهذا؟ وماذا يمكن أن تحصد القوى المعارضة في الداخل والخارج جراء أي خلاف روسي – إيراني؟ وماذا يعني إخراج الإيرانيين من سوريا بالضبط، وبقاء روسيا؟ وهل الثانية أفضل من الأولى لمستقبل سوريا؟ وهل إطاحة بشار الأسد، والإتيان بعلي المملوك مثلاً على اعتبار أنه دمشقي، أو آخر من شاكلته يكون من تربية هذا النظام، هو الحل الذي تحتاجه سوريا والمنطقة؟
إن خروج الإيرانيين، والقبول بهذا النموذج الروسي، ليس طبعاً الحلّ للأزمة السورية. ونكرر مجدداً أنه من دون انخراط أميركا، استناداً إلى سياسة واضحة للمنطقة برمتها تؤدي إلى تسوية مع موسكو، عبر ضغوط جدية تفضي إلى تسوية للحرب السورية، كما لأوضاع المنطقة برمتها، ستظل سوريا مقسمّة مشعلة، ومصدراً إضافياً لكل عوامل اللااستقرار التي تعجُّ بها منطقتنا.
سامي منسي
الشرق الأوسط