ترأست روسيا في أوفا، عاصمة جمهورية باشكورتوستان الروسية، في الفترة الممتدة ما بين 8 و 10 يوليو 2015 قمتين دوليتين لكل من منظمتي بريكس وشنغهاي للتعاون، تمخضت عنهما قرارات ذات أبعاد اقتصادية وسياسية مهمة.
وجاء انعقاد القمتين وسط مشهد دولي يطبعه انتشار بؤر للنزاعات والصراعات المسلحة، مع تنامي خطر الإرهاب، وقربه من حدود دول منظمة شنغهاي، في ظل فشل منظمة الأمم المتحدة في التسوية السلمية لمختلف القضايا والأزمات، وسط تنامي الأصوات الداعية لتعدد الأطراف في حل القضايا الدولية. ولعل ذلك يجعل أي محاولة لجرد حصيلة المؤتمرين وأبعادهما لا تقتصر على تبيان أهم بنود بيانيهما الختاميين، وإنما تتعداها لتحليل تأثيرهما فى مسار العلاقات الدولية، ومدى انعكاسهما على تجربة التكامل في المنطقة الأوراسية، ووزن روسيا في محيطيها الإقليمي والدولي.
قرارات ذات أبعاد اقتصادية وسياسية:
يعد التعاون بين دول بريكس ( روسيا، الصين ، البرازيل، الهند، جنوب إفريقيا ) أحد أهم المسارات المحورية في السياسة الخارجية لتلك الدول، بهدف كسر الهيمنة الغربية على المشهد الدولي، وهو ما تجلى في البيان الختامي للمؤتمر، الذي تبنى قرارات على المستويين الاقتصادي والسياسي.
فعلى المستوى الاقتصادي، انقسمت قرارات بريكس على ثلاثة أصعدة، تتمثل أولا في تبني استراتيجية للتعاون الاقتصادي حتى عام 2020 مع خلق 50 مشروعا استثماريا في دول المجموعة، وثانيا في الدعوة لإصلاح المؤسسات المالية العالمية، والسعي لخلق وكالة للتصنيف الائتماني خاصة بدول بريكس لتجنب التسييس الذي طال خفض التصنيف الائتماني لروسيا إلى درجة أقل من المتوسط من قبل وكالات “ستاندارد آند بورز”، و “موديز”، و “فيتش”، وذلك لتفادي أي إضرار مستقبلي بالإقراض الخارجي للشركات والمؤسسات الحكومية في الدول المعارضة لسياسة الهيمنة الأمريكية.
أما الصعيد الثالث، فيتعلق بتفعيل قرارات الدورة السادسة التي عقدت في فورتاليزا وبرازيليا ما بين 15 و 16 يوليو 2014، وذلك بإنشاء صندوق احتياطيات نقدية لدول “بريكس”، وبنك التنمية برأسمال إجمالي 200 مليار دولار، كقاعدة لتنسيق سياسة الاقتصاد الكلي، ولعب دول المجموعة دورا مهما وحاسما في الاقتصاد العالمي، وهو ما سيتم تفعيله بتمويل بنك التنمية لأول مشروع في أبريل 2016.
إن انطلاق عمل كل من بنك التنمية وصندوق الاحتياطيات بديل واقعي للمنظومة الاقتصادية الغربية المتحكمة في الاقتصاد العالمي بواسطة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما أن دعوة روسيا والصين لكل من البرازيل والهند وجنوب إفريقيا لتسوية المعاملات التجارية ما بين دول المجموعة بالعملات الوطنية خطوة أخرى في طريق إرجاع العالم للتعاطي بقاعدة الذهب بدل الدولار، خصوصا أن مشتريات روسيا من الذهب في السنوات السبع الأخيرة تنامت بوتيرة متسارعة، حيث بلغ حجم مخزون الذهب في الاحتياطيات الدولية الروسية، حسب بيانات المصرف المركزي الروسي، في 1 أبريل 2015 1238 طنا، وهو ما يراه الخبير الاستراتيجي “ديميتري كاليشينكو” استراتيجية لفتح نافذة الذهب من جديد.
أما على المستوى السياسي، فتضمن البيان الختامي نقاطا مهمة تعبر عن موقف بريكس من مختلف القضايا الدولية، يمكن إجمالها في نقطتين مهمتين:
1- محاربة الإرهاب: الدعوة لتوحيد الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب في إطار الاستراتيجية الدولية لمكافحة الإرهاب، وفقا لجميع القرارات الصادرة في هذا المجال عن مجلس الأمن، مع التشديد على ضرورة اتباع رؤية تشاركية خالية من ازدواجية في المعايير، في تعبير صريح عن فشل التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة للقضاء على داعش، خصوصا أن مجال نفوذ هذا التنظيم اتسع بعد ضربات التحالف، حسب العديد من التقارير الإعلامية الغربية، بما فيها صحيفة واشنطن بوست.
2 ـ تسوية الأزمات الدولية: بناء على معطيين رئيسيين، أولهما: تعدد الأطراف في حل القضايا الدولية، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، في 2 يوليو 2015 في القمة الشبابية لمجموعة بريكس، حينما صرح بأن “أمريكا عجزت بمفردها عن حل ولو نزاع واحد في العالم”. ثانيهما: اتخاذ مبادئ القانون الدولي، بما فيها حل الأزمات بالطرق السلمية، أساسا لأي تسوية، وهو ما أكدته بريكس بخصوص الحالة السورية، حينما أشارت إلى أنها غير قابلة للحل العسكري، وأنه يتوجب على النظام الدولي تقوية المساعي الحميدة لإيجاد حل سياسي متفق عليه بين النظام السوري والمعارضة.
أما بخصوص الملف النووي الإيراني، ومسألة إبرام اتفاق نهائي وشامل في إطار المفاوضات بين إيران والسداسية، فعبرت بريكس عن اقتناعها التام بأن تسوية هذا الملف مع رفع العقوبات الغربية عن طهران من شأنهما أن يعززا السلم والأمن الإقليمى والدولي، في حين شددت على ضرورة تنفيذ اتفاق مينسك لتسوية النزاع في شرق أوكرانيا، معتبرة أن أي محاولة لتحميل روسيا مسئولية ما يجري، مع المضي قدما في مسلسل العقوبات، من شأنه أن يؤثر فى مناخ الاقتصاد العالمي، وفى مسار العلاقات الدولية. وبخصوص النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، أكدت المجموعة ضرورة فصل الدولتين بناء على حدود 1967 مع رفضها التام والمطلق للاستيطان.
إن أهم ما يجب التوقف عنده، خلال هذا المؤتمر، والبنود التي خرج بها، أن هذه المجموعة التي تمثل 27% من الناتج الإجمالي العالمي، ويقدر مجموع احتياطيها من النقد الأجنبي بأكثر من 4 تريليونات دولار أمريكي، والتي يقدر عدد سكانها بـ 42% من سكان العالم ، خلقت توازنا في النظام الدولي، وأصبح لها تأثير مباشر فى المنظومة الاقتصادية والسياسية العالمية، وأن بيانها الختامي يمثل موقف أقطاب قوية يجب أن يأخذه العالم الغربي، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، بمحمل الجد، للحفاظ على مصالحها، والدفع في اتجاه إصلاح المؤسسات المالية العالمية.
من رقعة شطرنج إلى مركز جديد للقوة:
لا يخفى على أحد الأهمية القصوى التي تمثلها أوراسيا في التفكير الاستراتيجي للقوى العظمى، فهذه المنطقة كانت، ولا تزال، محط نظريات جيوسياسية، بدءا من ماكندر ونظريته “قلب الأرض”، مرورا بسبيكمان ونظرية “الأطراف”، وصولا لدوجلاس هيرد، ونظرية “المباراة الكبرى الجديدة”، ونهاية بزبيجنيو بريجينسكي الذي سماها “رقعة الشطرنج” التي يقع الصراع عليها، والتي يتوجب على واشنطن هزيمة أي متحد أوراسي للسيطرة عليها، إن هي أرادت استمرار مشروع القرن الأمريكي الجديد.
وهنا، لعبت منظمة شنغهاي للتعاون منذ نشأتها دورا مهما في المنطقة الأوراسية، عن طريق حل المشاكل الحدودية بين دول المنظمة، ومحاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، مع خلق مناخ إيجابي بين أعضائها للتعاون في شتى المجالات السياسية، والاقتصادية، والتكنولوجية، والاجتماعية، والثقافية، والأمنية، بهدف توحيد الجهود للوقوف في وجه الهيمنة الأمريكية، بناء على الفهم الدقيق لدول المنطقة، خصوصا روسيا والصين، لما تشكله مواجهة أمريكا من صعوبة خارج التكتلات الإقليمية.
وعرفت هذه المنظمة، خلال قمة أوفا، تطورا بنيويا مهما، بتوسيع عضويتها لتشمل الهند وباكستان كعضوين إلى جانب الأعضاء السابقين (الصين، روسيا، أوزبكستان، كازخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان)، فيما تم تأجيل قرار منح إيران صفة عضو لما بعد رفع العقوبات الغربية عنها، وتسوية ملفها النووي، بينما تم منح بيلاروسيا صفة مراقب إلى جانب المراقبين السابقين: إيران، ومنغوليا، وأفغانستان، مع منح كل من نيبال، وكمبوديا، وأذربيجان، وأرمينيا صفة شريك في الحوار، إلى جانب الشركاء السابقين: سيريلانكا وتركيا.
كما تبنت المنظمة استراتيجية للتعاون إلى غاية 2025، مع إعلانها عن مخطط إنشاء مركز دولي لتمويل المشروعات على أساس رابطة بنوك المنظمة، ودعت في بيانها الختامي إلى توحيد الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب الذي وصل لحدود دول المنطقة، بعد تغلغل تنظيم داعش في أفغانستان، وهو ما انعكس بالإيجاب على العلاقات الهندية- الباكستانية فور منحهما صفة عضو دائم، حيث اجتمع رئيسا الدولتين في لقاء ثنائي لتنسيق الجهود حول محاربة الإرهاب. وأشارت المنظمة إلى استعدادها لمحاربة الإرهاب الدولي في ظل فشل المنظومة الأورو-أطلسية بقيادة واشنطن، وهو ما يمثل تحولا وظيفيا مهما في عملها.
وجاءت باقي البنود السياسية للبيان الختامي شبيهة بسابقتها الصادرة عن قمة بريكس، حيث أكدت ضرورة التسوية السلمية للملفين السوري والإيراني، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لدول الشرق الأوسط، مع التشديد على تنفيذ بنود اتفاق “مينسك” بخصوص الأزمة الأوكرانية، والدعوة لرفع العقوبات الغربية الأحادية الجانب على روسيا، ونبذ التطرف.
هذا التحول البنيوي والوظيفي في عمل المنظمة، والتي يشغل عضويتها أربع قوى نووية (روسيا، الصين، الهند، باكستان)، يبرز دورها كمركز جديد للقوة ذى نفوذ وتأثير في السياسة الدولية، وخصوصا في أوراسيا التي أكد بوتين- خلال قمة أوفا- أنها “ليست رقعة شطرنج، ولا مكانا للألعاب الجيوسياسية”، بهدف خلق توازن في القوى تجاه المنظومة الأورو-أطلسية، لحماية مصالحها في المنطقة، وتمهيد الطريق للتحول من الأحادية الهشة إلى ثنائية قطبية، يكون فيها القطب المعارض لسياسة الهيمنة الأمريكية محطة أولى للوصول لتعدد الأقطاب.
تعزيز تجربة التكامل في أوراسيا:
يمثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (روسيا، بلاروسيا، كازخستان، قيرغيزستان، أرمينيا) أحدث التجارب التكاملية على الساحة الدولية، حيث دخل حيز التنفيذ في يناير 2015، بهدف خلق مناخ اقتصادي وسياسي بين الجمهوريات السوفيتية السابقة، ورفع الحواجز المادية، والسياسية، والاقتصادية في المحيط ما بعد السوفيتي لتحقيق المنفعة المشتركة، غير أنه يتخبط بعناصر تأزم داخلية مرتبطة بخلافات جوهرية بين أعضائه وخارجية، تتمثل في تأثير العقوبات الغربية فى مساره.
وشكلت قمتا بريكس وشنغهاي في أوفا فرصة سانحة لموسكو للمضي قدما في تجربتها التكاملية، حيث استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحقيق ثلاثة مكاسب مهمة:
1 ـ التخفيف من حدة العقوبات الغربية على الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يمثل الاقتصاد الروسي 83% من إجمالي ناتجه المحلي، بفعل إقرار توحيد جهود الاتحاد الأوراسي، والحزام الاقتصادي “طريق الحرير”، بعد تدارس كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينج يوم الأربعاء، 8 يوليو 2015، لمشروع دمج طريق الحرير في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، مع التباحث حول آليات ومشاريع للتعاون البناء في إطار المشروعين التكامليين.
2 ـ تذويب الخلافات الداخلية بين أعضائه، عقب اللقاء الذي جمع زعماءه على هامش القمتين، حيث عملت موسكو على دعم كل من بيلاروسيا وأرمينيا لمنحهما صفتي “مراقب”، و “شريك في الحوار” في منظمة شنغهاي، مع تجديد التنسيق والتعاون مع كل من كازخستان وقيرغيزستان بحسبانهما عضوين في منظمة شنغهاي.
3 ـ تعبيد الطريق للجمهوريات السوفيتية السابقة المترددة في الانضمام للاتحاد الاقتصادي الأوراسي، بفعل تحسن علاقة موسكو بها، خصوصا أوزبكستان وطاجيكستان كعضوين في منظمة شنغهاي، والأقرب من ضمن دول آسيا الوسطى للإنضمام إلى الاتحاد، وأذربيجان التي تلقت دعما من روسيا لمنحها صفة شريك في الحوار داخل منظمة شنغهاي، بالرغم من الخلافات الجيوسياسية المتمثلة في دعم موسكو لأرمينيا في ملف “ناجورنو ـ كاراباخ”، وهي رسالة واضحة المعالم لكل من مولدافيا وجورجيا بأن البراجماتية إحدى سمات الاستراتيجية الروسية، وأن الوقت قد حان لوضع خلافاتها مع موسكو جانبا على غرار أذربيجان.
دينامية روسية واختراق للاحتواء الأمريكي:
يري زبيجنيو بريجينسكي أنه لا يمكن عدّ روسيا قوة عظمى أو إمبراطورية بدون أوكرانيا، بناء على العديد من المعطيات الجيوسياسية. وبالتالي، فإن استطاعة الغرب قلب نظام الحكم في كييف، وتحييد الأخيرة عن الانخراط في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ضربة قاصمة لأي مشروع إحياء إمبراطوري روسي.
غير أن احتضان روسيا لقمتي بريكس وشنغهاي في أوفا، مع إجراء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأحد عشر لقاء ثنائيا على هامش القمتين مع قادة دول المنظمتين، بما ترتب عنها من قرارات اقتصادية وسياسية مهمة، وسط مسلسل العقوبات الغربية، ومحاولة عزل روسيا، مع تجميد بوتين مؤقتا لفكرته بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة من فلاديفوستوك إلى لشبونة، وعكسها شرقا للربط بين مشروعي الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والحزام الاقتصادي “طريق الحرير”- بمنزلة اختراق للاستراتيجية الأمريكية للإحاطة بروسيا وتقزيمها، بل ويتعداها لوضع مخطط استراتيجي للعودة الروسية من جديد، خصوصا أن موسكو اتجهت شرقا دون أن تقطع حبل الحوار غربا مع كييف وحلفائها الغربيين.
وهنا، يمكن القول إن بوتين نجح إلى حد كبير في إعادة مسار العلاقات الدولية نحو توازن جديد، بخلقه لمركز ثقل، وتحركه في إطار تكتلات إقليمية، بما فيها شنغهاي وبريكس، مما يجعل موسكو في تأثير دائم فى الخريطة الاقتصادية والسياسية الدولية، وسط عالم معاصر، معقد، وديناميكي.
العالم المعاصر في تغير وتفاعل دائم، وعلى واشنطن أن تتحرك ضمن المجال المتاح لها، وأن تعي جيدا حجم الخطر الذي تشكله سياساتها في إطار القطب الواحد، دون مراعاة لمصالح باقي الفاعلين على الساحة الدولية. فتعدد الأطراف في حل القضايا الدولية مطلب ملح لدمقرطة العلاقات الدولية، وخلق تعاون حقيقي بين الدول.
سامي السلالي
مجلة السياسة الدولية