واضح من المشهد السياسي في الولايات المتحدة، التي أزورها هذا الصيف، أنه على المستوى الشعبي الأميركي لا يوجد اهتمام بالاتفاق النووي مع إيران. وأن الإدارة الأميركية تولي أهمية كبيرة لتمرير الاتفاق النووي في الكونجرس، ولذلك نرى الرئيس أوباما شخصياً يشن حربين على جبهتين، بإرسال وزيري الدفاع والخارجية لطمأنة الحلفاء العرب والأتراك، بأن الاتفاق النووي هو لمصلحتهم أيضاً. وأن هذا الاتفاق بين إيران والقوى الكبرى ممثلة للمجتمع الدولي هو أفضل الممكن، لأن البديل هو الحرب، في حال فشلت الأطراف المعنية في التوصل إلى اتفاق.
والجبهة الثانية في حرب الإرادات الشرسة تقودها إدارة أوباما في حرب مفتوحة مع الكونجرس الأميركي بقيادة صقوره وعلى رأسهم قيادات الحزب الجمهوري، وكذلك ضد «آيباك» اللوبي القوي الداعم لإسرائيل والمعارض للاتفاق النووي وهو ينفق ملايين الدولارات في إعلانات تلفزيونية مدفوعة الثمن لحشد الرأي العام الأميركي لممارسة ضغوط كبيرة على أعضاء مجلسي النواب والشيوخ للتصويت ضد الاتفاق النووي عند عودة الكونجرس من الإجازة الصيفية. وفي المقابل تشن جماعة الضغط اليهودية المعتدلة «جي ستريت» حملة إعلامية قوية أيضاً تؤيد الاتفاق النووي مع إيران، وتصفه بالجيد لأنه يمنع طهران من الحصول على السلاح النووي.
إنها حرب إرادات يواجه فيها أوباما وإدارته وضعاً صعباً مع توقع بفشله في إقناع حلفاء واشنطن -وخاصة إسرائيل- في تمرير صفقة النووي في الكونجرس. ولهذا فهو يتحرك شخصياً في لقاءات مع قيادات الكونجرس، ويجري مقابلات تلفزيونية وصحفية، ويلقي محاضرات لتسويق الاتفاق لرأي عام أميركي غير متابع وليست لديه وجهة نظر ويتأثر بالحملات الإعلامية. ويسعى أوباما لدحض وجهة النظر التي تشكك في الاتفاق النووي وتدعو لرفضه بهدف إضعاف الرئيس الأميركي شخصياً وحرمانه من أي منجز يخلده كرئيس حقق إنجازات في الشأن الخارجي وجمد برنامج إيران النووي وتمكن من منعها من أن تصبح دولة نووية. ولم يجرؤ رئيس أميركي من قبل على تحدي لوبي «آيباك» النافذ بهذه الطريقة المباشرة، مع التذكير بأن تلك الشخصيات التي دفعت الولايات المتحدة الأميركية لشن حرب العراق هي نفسها التي ترفض الآن الاتفاق النووي مع إيران.
وقد شهد الأسبوع الماضي تطورات مهمة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، وفي ملف إيران النووي، من زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري وقد أتى لطمأنتنا باجتماعه مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في قطر التي ترأس الدورة الحالية لدول مجلس التعاون، مؤكداً وقوف واشنطن مع الحلفاء الخليجيين، وتسريع بيع وتسليم صفقات الأسلحة المليارية. وكذلك كرر وزير خارجية إيران محمد ظريف تطمينات إيران المتناقضة عن التعاون لمواجهة تهديدات وتحديات مشتركة، وأن الجار قبل الدار! والتأكيد على آفاق جديدة للتعاون بعد الاتفاق النووي. ولكن كما أكرر باستمرار فنحن نحكم على الحلفاء والخصوم بالأفعال والمواقف وليس بالأقوال والوعود ودبلوماسية التطمينات.
لأن الواقع، أن دبلوماسية التطمينات بعد الاتفاق النووي والزيارات الأميركية والإيرانية لا تستجيب لهواجسنا، ولا تقنعنا بأن الاتفاق النووي سيعقلن ويغير سلوك ومواقف وخطاب طهران، الذي ازداد تحدياً بالتلميح والتحذير منذ الاتفاق النووي.
ويمكن لإيران أن تطمئننا بسهولة بتغيير مواقفها وإقناع أذرعها وحلفائها في سوريا والعراق واليمن ولبنان بالعمل على إيجاد حلول للصراعات والخلافات، وأن تكون إيران مع حلفائها عاملاً يساهم في الحل وليس في المشكلة. كما أن الولايات المتحدة يمكنها هي أيضاً أن تقنع حلفاءها، وخاصة الخليجيين، بمواقفها وليس بزيارة مسؤوليها فحسب. ولتسمعنا إدارة أوباما مواقف وخطوطاً حمراء ضد إيران وحلفائها.. ولتصنفهم منظمات إرهابية، وترفع الغطاء عن بشار الأسد الذي تكرر كثيراً أنه فقد شرعيته وعليه أن يرحل، وأنه لا دور له في مستقبل سوريا.. ولكن على الأرض لا توجد آلية تدفع باتجاه كل ذلك. واليوم مع وضع الخطط لحملة عسكرية شاملة ضد «داعش» في سوريا بمشاركة تركية، لماذا تتردد واشنطن في فرض منطقة آمنة ومنطقة حظر طيران في شمال سوريا؟ ولماذا لا نسمع تصريحاً أو موقفاً يعارض ويرفض مشاركة «حزب الله» والفصائل العراقية الطائفية في القتال هناك؟ ولماذا لا تدين واشنطن الجرائم والتجاوزات والتطهير المذهبي الذي ترتكبه ميليشيات «الحشد الشعبي» الطائفية في العراق، وتمنع مشاركتها في العمليات العسكرية؟ ثم لماذا لا ترفع واشنطن الغطاء عن الانقلابيين الحوثيين في اليمن وتصنفهم منظمة إرهابية؟ والتطمين الأهم يكمن في أن ترتقي واشنطن بالعلاقة مع حلفائها الخليجيين إلى مستوى العلاقة بين أميركا واليابان وكوريا الجنوبية، وتضع حلفاءها تحت مظلتها النووية.
وبعبارة أشد اختصاراً ففي مقدور أميركا، وكذلك إيران، طمأنتنا بقرن الأقوال بالأفعال. وبجدية الأفعال والمواقف وليس بمجرد الوعود ودبلوماسية الزيارات البرتوكولية واللقاءات والتصريحات! أو بتسريع بيع السلاح، إذ إننا لسنا بحاجة لصفقات الأسلحة إذا اقتنعنا بجدوى الاتفاق النووي، وأن إيران لم تعد تهدد أمننا ولن تملك سلاحاً نووياً وستغير من سلوكها. وهكذا يمكن أن تطمئننا كل من أميركا وإيران. وأي شيء غير ذلك لا يستجيب لهواجسنا، فلا يعدو أن يكون حرثاً في بحر!
د.عبدالله خليفة الشايجي
صحيفة الإمارات