من الصعب أن نتصور جواد ظريف في دور “دارتانيان”، لكن ربما كان ألكسندر دوماس يفكر في مثلث مماثل عندما يتعلق الأمر بإيران وتركيا وسوريا. في إحدى المراحل، كان هناك توافق بين هؤلاء الرجال الثلاثة، والآن يتقاتل اثنان منهم على مصير الثالث، وكل منهم لديه نوايا مختلفة عن الآخر.
تحاول طهران إنقاذ الأسد من خلال السيرك الدبلوماسي الروسي؛ هذا السيرك الذي تجاهلته المملكة العربية السعودية عندما رفضت اقتراح موسكو بعقد اجتماع مع الإيرانيين؛ لتنسيق سياسات مكافحة الإرهاب. وهنا يتساءل المرء، هل الروس بهذا القدر من السذاجة؟ أم أنهم يبحثون عن شيء آخر؟
رُغم كل شيء، كان هناك اجتماع ثلاثي في نهاية يوليو الماضي؛ حيث جلست السعودية وروسيا وسوريا معًا. سرّب السوريون أنباء الاجتماع في خرق واضح لاتفاقهم مع موسكو والرياض. لكنّ الكرملين استمرت في محاولتها الحمقاء لوضع الثلاثة معًا، وفي النهاية واجهت الرفض السعودي القاطع بكلمة “لا”.
الروس ليسوا بهذه السذاجة. لقد كان الهدف من وراء تلك الجهود هو خدمة إيران. كانت مجرد فرصة لإنقاذ الأسد المحكوم عليه بالفناء، ولكنها لن تكون الأخيرة. يستعد دارتانيان (ظريف) للذهاب إلى الأمم المتحدة الشهر المقبل؛ لتقديم اقتراح لإنقاذ صديقه من الموت. أعلنت إيران أنّ ظريف يعتزم تقديم مشروع مقترح يشمل العناصر الأساسية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية إلى الأمم المتحدة في الشهر المقبل. تتكون هذه الخطة من أربع نقاط هي: 1) وقف إطلاق النار فورًا. 2) تشكيل حكومة وحدة وطنية. 3) كتابة دستور جديد يحمي الأقليات. 4) إجراء انتخابات عامة تحت إشراف الأمم المتحدة.
ومع ذلك، تظل الألغام الكامنة هي مستقبل الأسد. الدعوة المشروعة للسماح لجميع السوريين بتقرير الحكومة في المستقبل، ينسى دعوة أخرى مشروعة لتقديم كل الذين ارتكبوا جرائم حرب، بدءًا من الأسد ومساعديه، إلى العدالة.
الهدف الروسي السري هو “ملء الفراغ”؛ من خلال بعض الضجة الدبلوماسية؛ بحيث أنه عندما يأتي الوقت لاتخاذ إجراء حقيقي، سيكون الطريق مفتوحًا أمامها. لكنهم يروجون لجهودهم بشكل مختلف عن الإيرانيين. بالنسبة لموسكو، لقد حان الوقت لتثبت لإيران ما بعد العقوبات أن لديها أصدقاء يمكن الاعتماد عليهم في الكرملين، وأكثر موثوقية من العواصم الغربية التي تسارع الآن للتقرب من طهران.
هذا استثمار جيد، اقتصاديًا واستراتيجيًا، لكنّ الأصدقاء الذي يمكن الاعتماد عليهم نادرًا ما يستطيعون تغيير الحقائق على الأرض.
وفي ظل وضوح الموقف الروسي مع التطورات المستمرة في الحرب السورية، يتشكّل الموقف التركي أيضًا تحت مطارق هذه الحرب. تتطور الأزمة في سوريا تدريجيًا بطريقة تفرض على الأطراف المعنية مواجهة ضرورة حتمية؛ لتحديد موقفهم بطريقة أكثر وضوحًا.
بالرغم من فشل المبادرة غير المنطقية التي أعلنت عنها موسكو، إلّا أنّ الأتراك درسوا خياراتهم بشكل مختلف. لقد ذهبوا في طريق معاكس لما كان متوقعًا منهم. كان يُعتقد أنّ أردوغان سوف يتردد في الاختيار بين العرب والإيرانيين، بعد رفع العقوبات عن طهران، ويقع تحت إغراء الصفقات التجارية مع إيران. لكنه لم يفعل.
كان العامل الذي غيّر قواعد اللعبة لأردوغان؛ هو موافقة الولايات المتحدة التي حصل عليها للقيام بعملية عسكرية في شمال سوريا. اعتقد أردوغان أنه في النهاية سوف تخسر إيران في سوريا، وتضمد جراحها وتستمر في مهمتها. بالنسبة للأتراك، التهديدات الوشيكة، خاصة توسع حزب العمال الكردستاني في سوريا، كانت أكثر أهمية، لا سيما أنّ نهاية اللعبة في سوريا تتجه نحو إما تقليص دور الأسد إلى رئيس جمهورية غرب سوريا، أو الإطاحة به تمامًا، والحفاظ على وحدة سوريا بطريقة أو بأخرى.
لذلك؛ فالانقسام بين طهران وأنقرة آخذ في الاتساع. لم يعد أردوغان مترددًا بعد الآن. كما أظهر الروس لطهران أنهم يحاولون (على الرغم من أنه من الصعب أن نعتقد أنهم يؤمنون بنجاحهم في نهاية المطاف).
بعد أن أصبح التوصل إلى موقف أكثر وضوحًا من جميع الأطراف أمرًا لا مفر منه، زادت الهوة بين أنقرة وطهران. وقبل يوم واحد فقط من زيارة ظريف المحتملة إلى تركيا للقاء أردوغان في 11 أغسطس، حذّر مجتبى أماني، مسؤول إيراني سابق في القاهرة، الأتراك، وقال: “تركيا وغيرها من البلدان التي تدعم الجماعات المتطرفة والمتشددة ستدفع ثمن ذلك في أحد الأيام“. وبعدها، ألغى ظريف زيارته إلى تركيا.
لنرى الوضع من “الصورة الكبيرة”، سيكون من الواضح أنّ كلًا من إيران وتركيا يظهران الآن كمنافستين للتأثير في منطقة الشرق الأوسط. يشعر الأتراك بأنّ الرياح تتغير لصالحهم. ويرى أردوغان أنّ تركيا في وضع أفضل لتكون وسيطًا ومدافعًا عن العالم السُني على الأقل حتى يتم تسوية النزاع بطريقة أو بأخرى. كما كان توقيع الاتفاق النووي صفقة مربحة وانخفاضًا لنفوذ أردوغان؛ ومن ثم قرر أن يجرب حظه في الجمع بين هذين الهدفين: هدف على المدى القصير، وهو ملاحقة حزب العمال الكردستاني والحصول على جزء من سوريا والتوافق مع العرب، وهدف على المدى البعيد؛ وهو تضميد الجروح في علاقاته مع طهران في مرحلة لاحقة بمجرد هدوء لعبة تحديد الخيارات المحتدمة الآن.
بطريقة ما، فإنّ إبداء رأي حاسم في سوريا من شأنه تعزيز علاقات أردوغان مع العالم السُني، وتحسين الموقف التفاوضي لتركيا مع الإيرانيين. أردوغان سريع للغاية في إعادة بناء علاقاته مع العرب؛ لأنه يعلم أنه في عند مرحلة معينة سيجلس مع الفارس الآخر، جواد ظريف؛ لبحث التطورات في المنطقة. وإذا أعاد الإيرانيون بناء جسورهم مع العالم، فلن يكون هناك أمام أردوغان سوى إعادة بناء علاقاته مع المنطقة.
ولكن سيُختزل كل ذلك فيما سيحدث في سوريا. وهنا، يبدو الفارس الثالث عاريًا تمامًا؛ فالأسد يخسر المعركة الآن في سوريا. الجميع يعرف ذلك. ظريف مستعد لمقايضة رفيقه السابق؛ لتحقيق مكاسب استراتيجية محددة في سوريا ما بعد الأسد. ومع ذلك، ليس هناك مشترون. كما يصرّ العرب على أنّ إيران يجب أن تترك سوريا، سواء مع الأسد أو دونه. ويستعد الأسد للذهاب إلى الغرب. ولكن هذا لن يساعده كثيرًا؛ فالسوريون سيطاردونه أينما ذهب.
ثمة خيار واحد أمام الإيرانيين؛ وهو قبول أنهم باتوا في وضع “كش ملك”. درعا سوف تسقط وبعدها دمشق، وقبل ذلك سقطت حلب، وسوف تستمر الهجمات على اللاذقية حتى يتم إخلاء جسر العبور إلى معقل الأسد.
في مرحلة ما عندما يصبح هذا وشيكًا، سيأتي الإيرانيون إلى طاولة المفاوضات، يحيط بهم أنصارهم الروس بطبيعة الحال، لإجراء محادثات مع رجب طيب أردوغان. وهذا الأخير لن يكون في عجلة من أمره؛ لأنّه ليس الشخص المحاصر. بل على العكس، إنه يخرج من الحصار.
ذات مرة، كان الفرسان الثلاثة رفقاء كفاح سابقين. وإذا كان دوماس حاضرًا الآن، لكان هناك حلقة إضافية من قصة الفرسان الثلاثة.
التقرير