تشهد محافظة إدلب ومناطق من ريف حلب تحرّكات شعبية، تطالب بعودة المهجرين إلى ديارهم في حمص وحماة وريف دمشق ودرعا. وما كان لهذه التحركات أن تتم، لولا الهدوء النسبي الذي وفّره وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا الذي تم التوصل إليه في 5 مارس/ آذار الماضي. وحسب تقارير صدرت أخيرا عن منظمات إغاثية سورية ذات صلة، ومنها “منسقو الاستجابة”، فإن عدد المهجّرين الذين رجعوا خلال الشهر الماضي تجاوز ربع مليون، والغالبية العظمى من هؤلاء من مهجّري ريف إدلب، وهم من بين الذين تركوا ديارهم في معارك الأشهر القليلة التي سبقت وقف النار، ولم يستقرّوا في مخيمات المهجّرين، على غرار باقي المهجّرين من أرياف حماة وحمص ودمشق ودرعا، وعدد هؤلاء يتجاوز المليونين وفق حسابات تقريبية. وتم تهجيرهم على دفعات من الروس والنظام والإيرانيين في العامين الأخيرين.
يشكل وقف الحرب إنجازا مهما، لأنه يضع حدا لقتل المدنيين وتهجيرهم، ويوقف الكوارث التي بلغت حدا لا يمكن وصفه. وتشهد على ذلك المخيمات التي تنتشر كالفطر في محافظة إدلب، وبالقرب من الحدود السورية التركية. وهذه المخيمات تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة من مياه صالحة للشرب وصرف صحي وتدفئة وطبابة ومدارس.. إلخ، وجاء وباء كورونا ليفاقم من معاناة الناس، ويجعل من تثبيت وقف النار أولوية.
هناك أطرافٌ ليست لها مصلحة بعودة المهجّرين، لأن ذلك يغلق أحد أخطر الملفات في الحرب السورية. وهذه الأطراف لا تقتصر على جهة واحدة، بل هي تقع في صف النظام، وتوجد في مناطق المعارضة في الوقت نفسه. ولسنا بحاجة إلى براهين كي نثبت أن النظام لا يريد عودة المهجّرين؛ لأنه ارتكب مجازر، وقام بعمليات عسكرية بإسناد روسي إيراني، كي يحقق هذا الهدف الذي يرمي من ورائه إلى إخلاء مناطق واسعة من أهلها لأهداف طائفية بحتة. وتقع هذه المناطق في محيط دمشق وريفي حمص وحماة، وتتسم هذه الأراضي عموما بأنها ذات قيمة عالية، وتصلح لمشاريع عقارية مثل ريف دمشق، أو أنها زراعية خصبة، كما هو الحال في سهل الغاب. ومن جانب المعارضة، هناك قوى نشأت على ضفاف الثورة، وليست لها علاقة بأهداف الثورة، ولكنها سطت عليها بقوة السلاح، مثل هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) التي تحولت إلى نظام أمني مصغر يحكم محافظة إدلب وجزءا من ريف حلب بقوة الأجهزة. ويحصل هذا الفصيل على موارده بعدّة طرق، منها الضرائب التي يفرضها في المناطق التي يسيطر عليها، وعن طريق التحكّم في المعابر مع تركيا والنظام وتجارة المحروقات والخطف والسطو على أملاك الغائبين، ومن ذلك وضع اليد على أملاك الطائفة المسيحية. وفي حال ساد الاستقرار في هذه المنطقة، وترسّخ وقف إطلاق النار، فإن هيئة تحرير الشام تفقد القسم الأكبر من مواردها، ولن يكون في مقدورها دفع مرتبات عناصرها، الأمر الذي يهدّد بقاءها.
وقف إطلاق النار ليس الحل النهائي لهذه المنطقة، لكنه الخطوة الأولى على طريق الحل، ويشكل أول موقفٍ عاقلٍ من روسيا منذ تدخّلها العسكري في سورية. ويبدو أنها باتت تدرك أن الاستمرار في الحرب إلى ما لا نهاية لا فائدة منه، وقد يكسب منه النظام وإيران. أما ما استثمرته روسيا في سورية قد يضيع هباءً. ويمكن التقاط علامات التحوّل الروسي في احترام موسكو التعهدات التي قدّمتها لأنقرة بصدد وقف إطلاق النار من جهة، ومن جهة ثانية في الانتقادات الحادّة لرئيس النظام السوري بشار الأسد، والتي تساهم في إضعاف النظام وحلفائه الإيرانيين. وإذا صمد وقف النار فإنه سوف يقود حتما نحو الخطوة الثانية، الحل السياسي.
بشير البكر
العربي الجديد