ساد صمتٌ شبه مُطبق في إيران إزاء توالي الأخبار عن استياء روسي من الرئيس السوري بشار الأسد، وهي أخبارٌ تناولت كذلك خلافات روسية – إيرانية حول مستقبل سوريا، وصلت إلى حدّ الحديث عن رضا روسي ضمني عن تصعيد الغارات الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني وتوابعه في بلاد الشام.
حاول محللون روس التخفيف من قيمة ما نُشر في روسيا نفسها من تحليلات سلبية تجاه رأس النظام السوري، وكتب ممثلون للسلطة في موسكو، أو مقرّبون منها أن شيئاً لم يتغير في السياسة الروسية تجاه سوريا بعد نحو خمس سنوات من التدخل الروسي الحاسم، وقالوا إن الخلافات التي يُجرى الحديث عنها تتناول المصالح الاقتصادية، وعمل الشركات الروسية في سوريا.
من الطبيعيّ في هذا السياق أن تحدث تباينات ومنازعات تبقى في حدود التنافس على تحقيق مصالح محددة، إلا أنّ التخفيف من قيمة ما نُشر طوال الأسابيع الماضية لم يكن مقنعاً، خصوصاً بعد ربطه بانفجار الخلافات بين الأسد وابن خاله رامي مخلوف الممسك باقتصادات النظام والعائلة الحاكمة، وصاحب أول تطمين علني لإسرائيل، لحظة اندلاع الثورة السورية ضد النظام في عام 2011.
وزاد من الشكوك ما نشره النائب المفوّه في دفاعه عن آل الأسد، خالد العبود، وهو أمين سرّ مجلس الشعب السوري، وفيه هجوم عنيف على الروس والرئيس بوتين شخصياً، وإعلان صريح عن تخطيط سوري – إيراني، لإزاحتهم من الخريطة السورية!
جاء مقال العبود بعد زيارة جواد ظريف اللافتة دمشق، إثر تصاعد الحديث عن الخلافات المذكورة، إلا أنّ إيران بقيت متكتمة، بينما انهمك الروس والأتراك في استكمال ترتيباتهما لمنطقة إدلب، ووجد الأميركيون الفرصة مناسبة للحديث عن تقارب روسي – أميركي في شأن الوضع السوري.
للإيرانيين من يتحدّث باسمهم
على أنّ الصمت الإيراني الرسمي يعوّضه المتحدث باسمهم في “غرب آسيا” الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر الله، وعندما يتحدّث نصر الله تكون إسرائيل واقفة في خلفية المشهد، إذ لا معنى لتحليلات المتحدث باسم النظام الإيراني إذا غُيّبت إسرائيل، فجوهر تبرير نظام الملالي التدخل في سوريا يقوم على منع سقوطها في المحور الإسرائيلي – الأميركي، وخصوم النظام الإيراني المذهبي من العرب.
لذلك، فإنّ الجانب غير المعلن، أو الخفيّ، من الصورة، سينكشف على لسان طرفين صريحين: حزب الله بوصفه ممثلاً المصالح الإيرانية ومقيماً على الحدود الإسرائيلية، وإسرائيل التي تعاملت طويلاً مع سوريا الأسد، واطمأنت إلى نظامه، وهي لا تريد في أي حال تغييراً في دمشق، ينسف تفاهمات الجولان منذ 1974.
تولّى نصر الله في خطابه الأخير إعادة شرح أهداف التدخل الإيراني في سوريا بقرار من “سماحة السيد القائد الإمام الخامنئي دام ظله”، فكرر ما هو معروف في أدبياته من تبريرات جرى تطويرها، من حماية المراقد إلى حماية النظام، ليصل إلى جوهر الموضوع، وهو الوضع الإيراني الراهن في سوريا، بعد الأخبار الآنفة الذكر عن الموقف الروسي، وما أعقبها من أنباء عن تخفيف الوجود العسكري، وإعادة الانتشار.
رأى نصر الله أن “جبهة المستكبرين والطغاة الأميركيين تلجأ إلى الحرب النفسية والعقوبات والحصار، محاولة القول إن حلفاء سوريا بدؤوا يتخلون عنها (…) وإيران مشغولة بنفسها (…) وروسيا وضغوطها (…) هذا كله أحلام وأمانٍ، ومنها الحديث الدائم عن صراع نفوذ إيراني – روسي في سوريا، وهو غير صحيح على الإطلاق”.
وبيت القصيد وصل إليه نصر الله، فإيران “لا تخوض معركة نفوذ مع أحد في سوريا، ما يعنيها أن تكون دمشق في موقعها العربي، قد يحدث بين الحلفاء تفاوت في تقييم بعض الأولويات العسكرية الميدانية السياسية في المفاوضات، وما شاكل، لكن هذا لا يؤدي إلى صراع نفوذ”.
أن تكون سوريا في موقعها العربي هدفاً لإيران ليس كلاماً مقنعاً، فما يعرفه السوريون والعالم أجمع أن إيران تمارس سياسة توسعية في محيطها العربي، وليس سراً أقوال قادتها عن السيطرة على أربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وبيروت، وصنعاء. أمّا الحديث عن صراع نفوذ فهو أمرٌ واقع، يقرّه نصر الله، ولو حاول التخفيف من وقعه، ومن هذا الباب بالذات سيتدخل كثيرون، وهم يفعلون، في الساحة السورية، ومنهم بالطبع إسرائيل، الأمر الذي يزيد الأوضاع خطورة في سوريا ولبنان.
النظرة الإسرائيلية إلى إيران في سوريا
هاجم نصر الله وزير الحرب الإسرائيلي، ووصفه بـ”الأبله” لدى حديثه “عن سقف زمني محدد حتى نهاية 2020 لإخراج الوجود الإيراني من سوريا”. واعتبر أن الحديث عن انسحابات إيرانية “تضليل وكذب (…) لا توجد قوات عسكرية إيرانية في سوريا (…) يوجد عدد من المستشارين (…) يقدّمون المشورة والمساعدة”.
الرواية الإيرانية تنفي إذن وجود قوات في سوريا، بالتالي فإنّ إسرائيل “تخوض معركة وهمية اسمها منع الوجود العسكري الإيراني”، يقول نصر الله الذي بدا متأثراً بجانب من الرواية الإسرائيلية مُغفلاً جوانب أخرى.
فقبل أيام من خطابه شكك محللون إسرائيليون في صحة أقوال مسؤوليهم بأن إيران تقوم بتقليص قواتها، وتُخلي قواعد في سوريا، وفي تعليق ساخر كتب المحلل العسكري أليكس فيشمان في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، “إن إعلان انسحاب الإيرانيين من سوريا، تماماً مثل إعلان وزير الأمن نفتالي بينيت، تطوير مصل مضاد لكورونا، هو ذر للرماد في العيون”.
وحسب الكاتب الإسرائيلي “إن عملية تراجع السيطرة الإيرانية في سوريا ليست بالأمر الجديد، وهي مستمرة منذ أكثر من سنة. واستثمرت إسرائيل أكثر من مليار شيكل في السنوات الثلاث الأخيرة، في حرب سريّة في سوريا من أجل نقل الإيرانيين إلى وضعهم اليوم، إذ بإمكانهم تحقيق عشرة في المئة من خططهم، لإنشاء جبهة عسكرية هناك”.
بين “لا وجود عسكرياً للإيرانيين” حسب نصر الله، وفرض انكفائهم حسب الإسرائيليين يوجد مجال للاجتهاد، والقول بتغييرات جرت، وتُجرى في المشهد الإيراني السوري. وهو ما يجعل محللين إسرائيليين آخرين يرون “أن حزب الله في سوريا يتحوّل إلى جهة تقلق إسرائيل كثيراً”.
وفي تقرير صادر عن “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب إشارة إلى تصاعد التوتر “في ظل كورونا بين حزب الله وإسرائيل”. وفي السياق يشير التقرير إلى أن حزب الله يعمل على مواجهة كورونا في لبنان، وهو يستغل ذلك “من أجل تحسين مكانته وشرعيته لدى الجمهور حامياً للبنان”، إلا أنه يخلص إلى القول “إصرار إسرائيل وحزب الله على الحفاظ على قواعد اللعبة بينهما يعكس تطلعهما لمنع التدهور إلى مواجهة واسعة، وسياسة الحزب الخطرة والمدروسة متأثرة بالاعتبارات الداخلية، الاقتصادية والسياسية، وكذلك بضغوط خارجية، مثل تعريفه في ألمانيا تنظيماً إرهابياً”.
في الخلاصة، استمرار خطط إسرائيل الضاغطة في سوريا، واعترافٌ إيراني ضمني باهتزاز محور الدفاع عن الأسد، وعدم رغبة إسرائيلية في تغيير قواعد اللعبة مع حزب الله في لبنان. كل ذلك سينتظر مواعيد أبرزها انتهاء مفعول قرار مجلس الأمن بحظر السلاح على طهران في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وحلول موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية بعده.
طوني فرنسيس
اندبندت عربي