“داعش” الأصولي الإرهابي يطبق نظرية ماوتسي تونغ الشيوعي خلال المسيرة الكبرى “التراجع في المكان، والتقدم في الزمان”، وهو يضرب اليوم في أكثر من مكان، خسر الجغرافيا التي أقام عليها “الخلافة الداعشية” في ثلث مساحة العراق ونصف مساحة سوريا، فزاد تركيزه على سلاح التاريخ، وكان كورونا الذي شغل العالم كله فرصة استغلها لمضاعفة عملياته الإرهابية.
في آخر تسجيل له قبل اغتياله، قال أبو بكر البغدادي “مرحلة إدارة التوحش في سوريا انتهت، ونحن الآن في معركة طويلة، معركة استنزاف قدرات الأعداء البشرية والعسكرية والاقتصادية واللوجيستية”.
وفي أول بيان باسم خليفته المسمى “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” تم الإعلان عن “بدء مرحلة جديدة في قتال اليهود وكل الطوائف المحاربة للإسلام وأهله من النصارى والروافض والمرتدين المشركين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة زوراً ودول الخليج وفتاوى شيوخ الردة والملاحدة الأكراد والصحوات”.
ولم تكن التحذيرات من عودته قليلة، معهد “دراسة الحرب” في واشنطن حذر من “عودة داعش بقوة إذا انسحبت أميركا، فلديه 30 ألف مقاتل مقابل سبعة آلاف كانوا لدى القاعدة التي عادت بعد الانسحاب الأميركي”.
ضباط في “القيادة الأفريقية” الأميركية حذروا من أن تصبح ليبيا “مختبراً لداعش”، وأحدث عملياته الإرهابية كانت في “الباغوز” شرق الفرات حيث جرى إخراجه منها في آخر عملية للتحالف الدولي بقيادة أميركا وقوات “سوريا الديمقراطية” ذات الأكثرية الكردية، وأخطر عملياته تدور في الأنبار وصلاح الدين وديالى العراقية حيث خلاياه النائمة وخلفها عمق إستراتيجي في البادية السورية، أما في أفغانستان، فإن عملياته لم تتوقف حتى عندما خفّت عمليات طالبان.
كل ذلك، بعد هزيمته الجغرافية، وإعلان أميركا وروسيا وحكومة بغداد والحشد الشعبي، والنظام السوري وإيران و”حزب الله”، والقوات الكردية، الاحتفال بالانتصار عليه، لكن الواقع أن محاربة “داعش” كانت دائماً “انتقائية” على الرغم من كونها “أولوية” في الإستراتيجيات، والروس ركزوا جهدهم العسكري على حماية النظام وبالتالي على ضرب خصومه من المعارضين قبل “داعش”.
وهذا كان همّ النظام وإيران وميليشياتها، لأن وجود “داعش” كان ورقة يتم استخدامها لإقناع العالم بدعم النظام ما دام البديل منه هو هذا التنظيم الإرهابي وليست المعارضة، ثم صار التركيز الروسي على “التوازن” الصعب بين مصالح تركيا وإيران ودمشق وإسرائيل.
أميركا ساعدت الكرد في مقاتلة “داعش” شرق الفرات وإخراجه من عاصمته الرقة، لكن اهتماماتها مركزة على ضرب النفوذ الإيراني وترتيب اللعبة مع روسيا وضمان أمن إسرائيل ونوع من مصالح تركيا إلى جانب الحماية الواضحة للكرد كحليف محلي موثوق به، وهي ساعدت بغداد في طرد “داعش” من الموصل والأنبار وصلاح الدين، لكنها لم تكن سعيدة برؤية ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية الموالية لإيران تقاتل إلى جانب الجيش العراقي تحت مظلتها الجوية، ولا “هضمت” واقع الانهيار المريب للفرق المؤللة والمدربة أميركياً من الجيش العراقي أمام مجموعات صغيرة من “داعش” في الموصل أيام حكومة نوري المالكي .
وليس أكثر من القوى التي حاربت “داعش” سوى العوامل التي ساعدت ولا تزال تساعده، أنظمة سلطوية مذهبية، بؤس اقتصادي، تخلف اجتماعي، وفكر غيبي، والمعادلة القائلة إن الوجود الأميركي والروسي والإيراني والتركي ضروري لمواجهة “داعش” ومنع عودته هي معادلة مزدوجة، الوجه الآخر لها أن هذا الوجود الأجنبي هو من أخطر العوامل التي تجعل وجود هذا التنظيم الإرهابي ضرورياً لمواجهة “الاحتلال الأجنبي”، وكل الانتصارات على المسارات العسكرية والأمنية تبقى ناقصة من دون النجاح على المسار الفكري والثقافي.
فالكل بدا من دون مستوى جرأة علي عبد الرازق قبل أكثر من 100 عام حين أصدر كتاب “الإسلام وأصول الحكم” ليبرهن على أنه ليس للإسلام نموذج واحد للحكم، هي الخلافة التي كانت لها ظروفها التاريخية، ولا مركز مؤثراً من مراكز الفكر الإسلامي أعلن في مواجهة إعلان “الخلافة الداعشية” أن ظروف الخلافة تغيرت جذرياً عبر تطورات العصر واتساع رقعة انتشار الإسلام في كل القارات، بل كان أقصى ما قيل هو إن شروط إعلان الخلافة ليست مكتملة في غياب الشورى وأهل الحل والعقد، لا بل أن فرنسيس فوكوياما يسجل أن “العديد من الإرهابيين أصبحوا راديكاليين في أوروبا الديمقراطية”، ليقول “المزيد من الحداثة والديمقراطية يعني المزيد من شعور الشباب بالغربة والراديكالية والحاجة إلى الإرهاب”، وباختصار، “داعش” خسر أرض الخلافة، لكنه لم يخسر جاذبية فكرة الخلافة، والمعركة طويلة بالفعل.