لم يكن مفاجئاً أن يتخذ شي جين بينغ، رئيس الصين، المزيد من الخطوات الجريئة لإخضاع جزيرة هونغ كونغ لسيطرة حكومة بكين المركزية. فمنذ فترة طويلة والرئيس الصيني يعتبر ما يجري من حركات تحت ستار الحريات في الجزيرة “شوكة غربية” في خاصرة بلاده، وباباً خلفياً لزعزعة استقرارها. ومع تركيز العالم أنظاره اليوم على مكافحة ومواجهة جائحة كورونا المستجد، ومع تدني العلاقات مع الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها، رأى جين بينغ، بفطنته السياسية، أن الوقت هو أكثر من مناسب لمعالجة ثغرة هونغ كونغ قبل اتساعها وللظهور بمظهر الدولة العظمى، فاستغل تجمع 3 آلاف مندوب من “المؤتمر الوطني الشعبي” في بكين، واقترح التصويت على مشروع “قانون الأمن القومي” الذي سيسمح مستقبلاً للسلطات الصينية بقمع الحريات المدنية في الجزيرة المجاورة.
ثورة الألوان
وفي الواقع، ما فتئ “الحزب الشيوعي الصيني” يجد مطالب سكان هونغ كونغ، بدءاً من كيفية اختيار حكامهم وصولاً إلى مسألة الاحتكام لسيادة قانون محايد، تهديداً مبطناً لسلطته المطلقة، لدرجة أن بكين كانت قاب قوسين أو أدنى من إرسال قوات عسكرية لسحق احتجاجات العام الماضي التي اندلعت في الجزيرة. إذ يرغب الحزب في إيقاف ما يسميه “ثورة الألوان” التي يعتقد أنها يمكن أن تجلب الفوضى والتفكك إلى البلاد، حسبما تقول مجلة “ذي إيكونومست”. ويبدو أن جين بينغ، الذي يجيد لعبة الانتظار والوقت، قرر أنه آن أوان التحرك في ظل تطبيق سياسات الابتعاد الاجتماعي في زمن كورونا.
مشروع قانون غير واضح
لكن كيف بدأ كل هذا الأمر؟ في 21 مايو (أيار) الماضي، أعلنت الصين أن مواطني هونغ كونغ الذين قد يشكلون تهديداً للأمن والسلم سيصبحون عرضة للمساءلة. وبدأت بكين في وضع مسودة مشروع قانون أمني جديد يفصل الجرائم المهدِدة (لم يتم تفصيلها بعد) بوصفها أعمالاً تخريبية وانفصالية، وهما مصطلحان مستخدمان في أماكن أخرى من البلاد لقمع المعارضين. وطبعاً لن يكون لهونغ كونغ رأي في صياغة مشروع القانون الجديد الذي سيتيح لبكين إدخال شرطتها السرية هناك. إذن، الرسالة واضحة: ثمة قبضة حديدية قادمة لخنق الأصوات المعارضة وتقييد الحريات العامة.
ويعد مشروع القانون الجديد، أكبر انتهاك حتى الآن لمبدأ “دولة واحدة ونظامان” الذي ما فتئت الصين تتبعه منذ عقود، فعندما أعيدت المستعمرة البريطانية الجزيرية إلى الصين عام 1997 وافقت بكين على أن تتمتع هونغ كونغ “بدرجة عالية من الحكم الذاتي” بما في ذلك نظامها القضائي المحايد مع حرية تعبير غير محدودة، وبذلك أضحت هونغ كونغ مركزاً تجارياً عالمياً ليس فقط لأنها تقع بجوار الصين القارية، لكن أيضا لأنها تتمتع بسيادة قانون محايد، بحيث تتم تسوية نزاعات العمل بنزاهة من خلال قواعد معروفة مسبقاً.
ومن المتوقع أن تمتد آثار خطوة بكين الجديدة إلى أبعد من هونغ كونغ، إذ كان مفترضاً أن يكون شعار “دولة واحدة ونظامان” نموذجاً جيداً لتايوان، وهي جزيرة ديمقراطية أخرى يبلغ تعداد سكانها 24 مليون نسمة ترى الصين ضرورة عودتها إلى حضن الوطن الأم من دون أن تفقد خصوصيتها الديمقراطية.
لكن يبدو أن الصين في عهد الرئيس جين بينغ، بدأت تحيد عن هذه السياسة، فغداة إعادة انتخاب تساي إينغ وين، رئيسة تايوان المعادية للصين في يناير (كانون الثاني) الماضي، اقتنع حكام بكين بأن فرص إعادة التوحيد السلمي مع تايوان أضحت ضئيلة للغاية. وفي 22 مايو وخلال افتتاح البرلمان الصيني، عمد رئيس الوزراء الصيني لي كيكيانغ، بحسب وكالة “رويترز”، إلى إزالة عبارة “سلمية” من خطابه خلال إشارته إلى إعادة التوحيد مع تايوان، في وقت كثفت بكين مناوراتها الحربية حول الجزيرة تزامناً مع حملة للقوميين الصينيين على الإنترنت تدعو إلى اجتياح الجزيرة بالقوة العسكرية.
استغلال عنصرية ترمب
في عامه الثامن للحكم زعيماً أوحداً للصين، أظهر جين بينغ أنه ليس من السهل ثنيه عن تنفيذ جدول أعماله القومي، أو التسامح مع أي تحدٍ يمس هيبة الحزب الشيوعي. ومع نمو اقتصاد الصين وقوة جيشها، أظهر جين بينغ جرأة أكبر في اقتحام المخاطر. ويبدو أنه يُحسن استغلال الصورة التي يرسمها الرئيس الأميركي دونالد ترمب لأميركا والصين وهما في خضم مواجهة، إذ يعتقد جين بينغ أن ميزان القوى بدأ يميل لصالح بلاده، خصوصاً بعدما ظهرت أميركا في موقف ضعيف أمام فيروس كورونا، فيما تعمل إهانات ترمب العنصرية على صعود النزعة القومية الصينية. وبخطوته الأخيرة، يحاول جين بينغ تصوير الحركة المعارضة في هونغ كونغ بوصفها مؤامرة أميركية، ما يساعد في تغذية احتقار سكان الصين القارية لحركة المتظاهرين في الجزيرة.
“حركة المظلة”
تاريخياً، واجهت جهود الصين لكبح جماح هونغ كونغ مقاومة هائلة من لدن سكان الجزيرة، الذين اعتادوا ممارسة الحرية على النمط الغربي، وقد خرج الهونغ كونغيون إلى الشوارع بأعداد كبيرة في أكثر من مناسبة، احتجاجاً على محاولات إخضاعهم بالقوة لحكم بكين، سواء خلال “حركة المظلة” الاحتجاجية عام 2014، أو عبر التظاهرات الحاشدة التي اجتاحت الجزيرة العام الماضي. وقد أجبرت هذه الاحتجاجات بكين وحكام الجزيرة المُعينين من جانبها، الذين تقوم بانتقائهم بعناية، على تقديم تنازلات تكتيكية في أكثر من مناسبة لاحتواء الاضطرابات.
لم يتضح بعد ما سيتضمنه مشروع القانون الجديد الذي تقول بكين إنه لن يحُدَّ من حقوق سكان هونغ كونغ التي تعهدت عدم تغييرها أو المساس بها مدة 50 عاماً، بموجب اتفاقية 1997 الموقعة مع بريطانيا، لكن دبلوماسيين ورجال أعمال أبدوا قلقهم من أن مشروع القانون سينتهك حرية التعبير والتدفق الحر للمعلومات على الإنترنت وسيتيح التدخل في لوائح السوق المالية.
وستستغرق الصياغة النهائية للقانون بضعة أشهر، ما يمنح الوقت للولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول المعنية بالشأن الصيني، مثل اليابان وأستراليا والاتحاد الأوروبي لشن حملة لدعم الجزيرة.
مستعمرة استثنائية
في يوليو (تموز) 1997، عندما تم إنزال علم المملكة المتحدة من فوق هونغ كونغ، أعيدت المستعمرة المزدهرة إلى الصين بعد أكثر من 150 عاماً من الحكم البريطاني. كانت الشمس تغيب أخيراً عن واحدة من آخر الجواهر الثمينة للإمبراطورية البريطانية، لكن هل كانت هذه اللحظة بداية حكم ذاتي دائم لهونغ كونغ؟
احتلت المملكة المتحدة الجزيرة عام 1841، غداة “حرب الأفيون الأولى” التي اندلعت بعد أن حاولت سلالة تشينغ الحاكمة قمع تجارة الأفيون غير القانونية التي أدت إلى إدمان واسع النطاق في الصين، وقد جاءت هزيمة الأخيرة بتكلفة عالية، ففي عام 1842، وافقت سلالة تشينغ على التنازل عن جزيرة هونغ كونغ للبريطانيين إلى الأبد من خلال معاهدة نانجينغ.
خلال نصف القرن التالي، سيطرت بريطانيا على جميع المناطق الرئيسة الثلاث في هونغ كونغ، وهي مساحة من الأراضي تضم الجزء الأكبر من هونغ كونغ اليوم. لذا تم توقيع معاهدة جديدة عام 1898 لتمديد مساحة الإقليم، أتاحت لبريطانيا استئجار الأراضي الجديدة لمدة 99 عاماً. وبموجب أحكام المعاهدة، تم إضافة نص يفيد باستعادة الصين سيطرتها على أراضيها المستأجرة في 1 يوليو 1997.
كان مسار هونغ كونغ البريطاني مختلفاً عن مسار الصين القارية، التي أصبحت دولة شيوعية عام 1949، فقد وجد ما يصل إلى 100 ألف صيني ملاذاً في هونغ كونغ بعد أن تولى الحزب الشيوعي السلطة، وسرعان ما شهدت رأسمالية هونغ كونغ طفرة اقتصادية، وأصبحت موطناً لمجتمع دولي متعدد الثقافات.
الإعلان الصيني – البريطاني المشترك
مع اقتراب انتهاء صلاحية المعاهدة، أصبح فصل الأقاليم الجديدة عن بقية هونغ كونغ أمراً لا يمكن التفكير فيه أو تصوره. وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، بدأت المملكة المتحدة والصين في مناقشة مستقبل هونغ كونغ. في عام 1984، وقعت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، ونظيرها الصيني تشاو زيانغ، الإعلان الصيني- البريطاني المشترك الذي نص على منح الصين هونغ كونغ بعض الحكم الذاتي السياسي والاجتماعي من خلال سياسة “دولة واحدة ونظامان” لمدة 50 عاما.
بعد تسليم الجزيرة عام 1997، أصبحت هونغ كونغ منطقة إدارية خاصة تتبع الصين لها “دستورها المصغر” ونظامها القانوني وبعض الحقوق الديمقراطية مثل حرية التعبير وحرية التجمع بموجب قانونها الأساسي. ومع ذلك، لا يمكن لسكان هونغ كونغ انتخاب قادتهم. بدلاً عن ذلك، يتم انتخاب رئيس هونغ كونغ التنفيذي من قبل لجنة انتخابات تضم 1200 عضو.
ابتداء من عام 2014، أجريت الانتخابات باستخدام قائمة مرشحين تختارها بكين، وقد أدى ذلك إلى جانب سياسات صينية أخرى، مثل السماح بتسليم المجرمين لبكين، إلى اندلاع احتجاجات واسعة وتوتر العلاقات الدبلوماسية بين بكين ولندن. ولا يزال أمام عملية تسليم الجزيرة مرحلة أخرى نهائية: انتهاء صلاحية اتفاقية الصين لاحترام القانون الأساسي لهونغ كونغ. فهل ستواصل بكين الاعتراف باستقلال هونغ كونغ بعد ذلك؟ سنكتشف ذلك في عام 2047.
محمد طاهر
اندبندت عربي