شاركتُ منذ مدة قصيرة في ندوة افتراضية حول صورة الصين في الشرق الأوسط في ظل جائحة كورونا، حيث قدم نحو ثلاثين باحثاً وإعلامياً صينياً أوراقهم حول المواضيع ذات الصلة، ومنها بضعة أبحاث تناولت الرأي العام العربي عن الصين منذ تفشي الجائحة حتى اليوم، وفقاً للتحليلات للأخبار والتقارير والمقالات التي نشرت في أهم الوسائل الإعلامية المقروءة والمرئية في العالم العربي، ومنها جريدة «الشرق الأوسط» الغراء، إضافة إلى دراسة مسحية لما نُشر في وسائل التواصل الاجتماعي العربي.
وتوصلت هذه الأبحاث إلى ملاحظات تالية: أولاً، احتلت الصين حيزاً كبيراً في كل ما نشر في الإعلام العربي حول الجائحة الراهنة. ثانياً، تتباين الآراء والمواقف العربية تجاه الصين بين الإعجاب والتعاطف، والترقب والحياد، والانتقاد والشماتة، ويبدو أن التحليل الموضوعي يمثل سيد الموقف في معظم المقالات. ثالثاً، علت نبرة الانتقاد للصين وتصاعدت بشكل غير مسبوق، بل وصلت في بعض المقالات إلى حد التوبيخ والإدانة. رابعاً، من الواضح أن كثيراً من المقالات تأثرت بدرجات مختلفة بوجهات نظر غربية، وخاصة الأميركية، مما يدل على قوة تأثير الخطاب الغربي الأميركي وضعف الخطاب الصيني في الإعلام العربي، لأسباب تتعلق باللغة والخبرة والمهنية وغيرها. خامساً، تنمّ بعض المقالات عن جهل شبه تام لأصحابها بالصين: تاريخها وحاضرها، تنوّعها الكبير وتعقدها الشديد.
من جانبنا، لم يشعر معظم الباحثين الصينيين بالدهشة إزاء ما ورد في بعض الوسائل العربية من الانتقاد الصريح للصين، لأنَّ الأمر، كما قال باحث صيني في الندوة، أشبه بنزول صاعقة من السماء فأصابت منزلاً وأحدثت حريقاً فيه، ولم يتمكن صاحب المنزل من إطفاء الحريق حتى امتدّ إلى منازل مجاورة. فليس بالغريب أن يصبّ بعض الجيران غضبهم على صاحب هذا المنزل، خاصة إذا كان بينهم مَن يضمر الجفاء والمخاصمة ضده. ولكن، وتابع هذا الباحث، رغم أن هذا الغضب مبرر عاطفياً فإنه لا يجدي عقلياً وواقعياً، لأنَّ مصلحة الجميع تستلزم تعاون كل الجيران من أجل إطفاء الحريق بالسرعة الممكنة وتقليل الخسائر إلى أدنى حد.
وأحاول فيما يلي أنْ أوضّحَ بعض الجوانب المتعلقة بطبيعة علاقة الصين بالجائحة ورؤيتها للعالم عامة، وللعرب خاصة في ظل الأزمة الراهنة.
صحيح أنَّ الجائحة داهمت مدينة ووهان الصينية أولاً في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي قبل أي مكان آخر، ولكن ذلك لا يعني إمكان الجزم بأن الصين هي مصدرها، فتحديد مصدر الفيروس ومسارات انتشاره من الطبيعة إلى البشر، ومن الصين إلى العالم كله، مسألة علمية تحتاج إلى الحرفية والموضوعية، ويعزز هذا الرأي اكتشاف الباحثين في مدينة كولمار الفرنسية إصابة مرضى فرنسيين لم يسافروا إلى الصين بأعراض «كوفيد – 19» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وأنباء عن حدوث حالات مماثلة في الولايات المتحدة قبل انتشار الفيروس في الصين. أؤكد ذلك خاصة أن خطأ فادحاً كان قد حصل في تسمية «الإنفلونزا الإسبانية» التي قتلت أكثر من 50 مليون إنسان في سنة 1918 وما بعدها، إذ أن الباحثين أثبتوا فيما بعد أنها إنما بدأت في معسكر فونستون (Funston) العسكري في ولاية كانزاس الأميركية، ونقلها الجنود الأميركيون إلى إسبانيا ومنها انتشرت إلى العالم.
أما بالنسبة إلى الجهود التي بذلتها الحكومة الصينية من أجل احتواء الجائحة وردود الصين الرسمية على سلسلة من التهم التي أطلقها بعض الساسة والإعلاميين في أميركا، فيمكن للقارئ العربي معرفة تفاصيلها من خلال تصريحات صينية عديدة، وخاصة البيان المطول الذي صدر عن وزارة الخارجية الصينية بتاريخ الـ9 مايو (أيار)، والمدعوم بكثير من المصادر العلمية الصينية والأجنبية. وشخصياً، لا أعتقد أنَّ أداء الحكومة الصينية، وخاصة الحكومة المحلية في مدينة ووهان ومقاطعة هوبي في بداية انتشار الجائحة، كان كاملاً لا تشوبه أي شائبة، ولكن السؤال المطروح هو: أمام هذا الفيروس الجديد غير المعروف والماكر (حيث نجد بين المصابين به عدداً من الناس لا يظهرون أي أعراض المرض، مما جعل احتواءه مسألة بالغة الصعوبة)، هل يحقُّ للحكومة الأميركية أو أي حكومة أخرى زعم أنها تقدر على إدارة الأزمة بشكل أفضل، إذا كانت في محل الصين؟ وهو سؤال وجيه، خاصة بعد أن شهدنا الفوضى العارمة التي صاحبت الإدارة الأميركية منذ تفشي الجائحة فيها في مارس (آذار) الماضي حتى هذه اللحظة.
وقد أطلقت الإدارة الأميركية مؤخراً سلسلة من التهم ضد الصين، منها التكتم المتعمد على المعلومات بشأن انتشار الفيروس، والتزوير في إحصاء عدد المصابين والمتوفين في الصين، وتسرّب الفيروس بشكل عَرضي من مختبر الفيروسات بووهان، وتصدير الفيروس المصطنع بشكل متعمد إلى أميركا، والتواطؤ مع منظمة الصحة العالمية لتضليل العالم، وسرقة الأبحاث الأميركية حول ابتكار اللقاح… وإلخ. والغريب أن المسؤولين الأميركان الذين قالوا مراراً وتكراراً إنهم يمتلكون أدلة «كثيرة ومهمة» لدعم هذه التهم، لم يظهروا حتى الآن دليلاً مقنعاً واحداً بشأنها، بل نجد أن مصادر أميركية دحضت بعض هذه التهم، منها الدكتور أنتوني فاوتشي، كبير أطباء الأمراض المعدية، الذي صرّح بأنه من غير المعقول مطالبة الصين بإبلاغ العالم قبل ثلاثة أشهر بشأن الفيروس، والدكتور فرانسيس كولينز مدير المعهد الوطني للصحة بواشنطن، الذي قال إن الفيروس لا يمكن أن يكون مصطنعاً من قبل البشر، بل إن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركية أصدر بياناً في 30 أبريل (نيسان) الماضي، مفاده أنه وافق على رأي العلماء القائل بأن الفيروس ليس من صنع الإنسان أو معدلاً جينياً… والأغرب من ذلك أن بعض هذه التهم انطلقت من الرئيس ترمب نفسه، الذي أشارت قناة «سي إن إن» الأميركية في مقالة نشرتها في 21 أبريل، أنه قد أثنى على الصين والرئيس شي جينبينغ أكثر من 30 مرة على «الشفافية» و«المهنية» و«روح التعاون» للصين ورئيسها، في الفترة ما بين 22 يناير (كانون الثاني) و27 مارس! وهل هناك تفسير لهذا الانقلاب الفجائي في موقفه من الصين غير محاولة لتبرئة فشله الذريع وغير المتوقع في احتواء الجائحة، وإيجاد كبش فداء له حتى يضمن له الفوز في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل؟ وقد يكون أكبر دليل على صحة هذا القول وثيقة للحزب الجمهوري أعدت بتاريخ 17 أبريل وتسربت عن الإعلام الأميركي، مفادها اعتبار الهجوم على الصين استراتيجية أساسية للحملة الانتخابية لترمب.
وأظن أنَّ هذه الحيل الأميركية لافتعال التهم ستذكر القارئ العربي حتماً بما فعلته إدارة بوش الصغير قبيل شنّه الحرب العدوانية على العراق عام 2003. حيث زعمت أن بحوزتها أدلة «قاطعة» تثبت امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وبقية القصة معروفة لدى الجميع. إني أتعطف، مثل معظم الشعب الصيني، على الشعب الأميركي للخسائر الكبيرة في الأرواح الناتجة عن تفشي الجائحة، بل أتفهم قلق الرئيس ترمب ومساعديه من الوضع الجاري، ولكن، هل يمكن أن تبرر السياسة الانتخابية كل هذه الأكاذيب والافتراءات اللاأخلاقية واللاعقلانية؟ ويراودني هنا المثل العربي القائل: «ما هكذا يا سعد تورد الإبل!».
أنتقل الآن إلى تلويح بعض الناس في الولايات المتحدة وغيرها برفع الدعاوى ضد الصين لملاحقتها ومطالبتها بدفع تعويضات مالية خيالية. فيتبيَّن مما سبق أن هذه الدعاوى تفتقر إلى أساس واقعي ومرجعية قانونية وسابقة دولية أو تاريخية، كما أنها ستحدث فوضى شاملة في العالم: فسينبري حتماً، على سبيل المثال، من يطالب المكسيك أو أميركا بدفع تعويضات لضحايا إنفلونزا H1N1 التي أودت بحياة نحو عشرة آلاف إنسان، ومطالبة أميركا بتعويضات لضحايا مرض الإيدز الذين بلغوا 22 مليون ضحية في مختلف أنحاء العالم منذ ظهور المرض عام 1981 في الولايات المتحدة حتى الآن. بل ألا يحق للعراق وليبيا مطالبة أميركا وفرنسا وبريطانيا بتعويض خسائرهما الخيالية في الأرواح والممتلكات الناجمة عن الحروب العدوانية عليهما؟ وأعتقد أن الإنسان يحتاج إلى مخيلة هائلة حتى يتصور أن الصين، بكل قواها السكانية والحضارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، ستخضع لهذه الدعاوى. ويجب ألا ننسى أنَّ هذه الجائحة ليست الأولى في تاريخ البشرية ولن تكون الآخرة، فلنفرض أن جائحة مقبلة تنشأ من دولة صغيرة أو متوسطة قبل انتشارها في العالم، فهل ستبتلعها الدول الأخرى؟
وفي مقابل مَن ينتقد الصين ويتوقع حصول الشرور والمكاره ضدها، هناك من يتنبأ بصعود النفوذ الصيني مما يمكّنها من زعامة العالم، خاصة بعد نجاحها اللافت للنظر في احتواء الجائحة خلال فترة قصيرة نسبياً، وهو رأي هو الآخر يجافي الحقيقة. وتدرك الصين، على مستوى النخب السياسية والفكرية على الأقل، أن فجوة كبيرة نسبياً لا تزال تفصل بينها وبين الولايات المتحدة، اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، رغم أن هذه الفجوة ضاقت وتضيق بوتيرة سريعة في السنوات الأخيرة. فليست للصين الإرادة، ولا القدرة، على أن تحل محل الولايات المتحدة وزعامة العالم. ولكن، ستبقى الصين، ولفترة طويلة، ذلك الآخر المختلف للغرب، نظراً للاختلاف الآيديولوجي بينهما، بل وأهم من ذلك، نظرا للخصوصية الاجتماعية والثقافية الضاربة بجذورها في عمق الحضارة الصينية. ما زال يحمل كثير من المثقفين الصينيين، وأنا منهم، إعجاباً كبيراً بالفكر الغربي المستنير، ولكن يزداد لديهم يوما بعد يوم شعور بالمساواة والندية مع الغرب، تعززه معطيات عديدة، منها تاريخ الاستعمار الغربي للصين، وتورّط الغرب غير المحمود في كثير من الملفات داخل الصين وخارجها، والتقدم الاقتصادي الكبير الذي تحقق عبر ما يسمى «الطريق الصيني». وقد يكون آخرها، أداء الدول الغربية السيئ إجمالاً في مواجهة الجائحة الراهنة، الأمر الذي أربك جميع الموالين والمحبين للغرب في المجتمع الصيني.
من المتوقع أن تواصل الإدارة الأميركية هجومها على الصين في الأشهر المقبلة قبل الانتخابات، وربما بعدها أيضاً، مستغلة كل الملفات الداخلية والخارجية الممكنة، من أجل خلق حصار دولي على الصين. وستواجه الصين الجهود الأميركية الرامية إلى عزلها، بمزيد من الانفتاح على العالم كله، وهو الشيء الذي نلاحظه في خطابات القادة الصينيين مؤخراً. فالولايات المتحدة، رغم قوتها الجبارة، لا تمثل إلا جزءاً من هذا العالم، كما أن الإملاءات الأميركية لم تعد تتمتع اليوم بمنزلة وكأنها «التنزيل الحكيم»، فالمرجعيات المبدئية والمصلحية، لا التبعية العمياء، هي التي ستحدد سياسات كل الدول بما فيها الدول الأوروبية. ويبرهن على ذلك ما حدث في مؤتمر وزراء الخارجية لمجموعة الدول السبع في مارس الماضي، من رفضهم التحرك الأميركي لربط الفيروس بمدينة ووهان أو الصين في البيان الختامي؛ وتعهد قادة مجموعة الـ20 بتعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجائحة، في قمتها الافتراضية التي عقدت برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز؛ إضافة إلى تمرير قرار في الدورة الـ73 لجمعية منظمة الصحة العالمية، يدعو إلى تأكيد الدور القيادي للمنظمة للجهود الدولية في مواجهة الجائحة، وإجراء تقييم مستقل وعادل وشامل للرد الدولي على انتشارها، وقد تم ذلك رغم التهديدات التي وجهها ترمب إلى المنظمة.
إن رسالة الصين للعالم هي أنها ليست عدواً للغرب، ولا عدواً لأميركا، بل هي مستعدة دوماً لمدّ يد الصداقة لكل شعوب العالم، من منطلق المساواة والاحترام المتبادل، لا بصفة الضعيف المستجدي، لأنَّ الضعف والاستجداء، كما أثبته تاريخ الصين وتاريخ البشرية، لن يكسبا الاحترام من الغير.
عربياً، أثق بأن العلاقات الودية العربية الصينية ستصمد أمام اختبار الجائحة، لأنها علاقات عادت وتعود بفوائد كبيرة على الجانبين. فيعرف العرب الحضور الصيني القوي في العقود الأخيرة في عمليات الإعمار والتصنيع في جميع الدول العربية تقريباً، وتشهد على ذلك مرافق البنية التحتية الكثيرة المبنية بالأيدي الصينية، منها على سبيل المثال خط القطار السريع بين مكة المكرمة والمدينة المنورة الذي أنجزته شركة صينية، ناهيك عن البضائع المصنوعة في الصين في كل منزل عربي تقريباً، وهي بضائع، وإن لم تساوِ بعدُ الجودة الألمانية أو اليابانية، تتمتع بنوعية جيدة إجمالاً وتمكّن عدداً لا يحصى من العرب المحدودي الدخل من العيش عيشة عصرية، فضلاً عن كون الصين أكبر أسواق العالم حجماً وأكثرها استقراراً للنفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية العربية. كما أحب أن أشير إلى أنه في الشرق الأوسط الذي عانى كثيراً من ويلات الحروب والنزاعات، لم يشهد العرب يداً صينية وراء أي حرب أو نزاع في المنطقة، بل كانت الصين ولا تزال تقف مع كل القضايا العادلة للشعوب العربية في تاريخ العلاقات بين الطرفين.
إن الصين، ذلك الآخر الغريب في نظر البعض، لا ينبغي أن يكون «آخر» بالمعنى العميق بالنسبة للعرب، الذين تربط بينهم وبينها معاناة متشابهة وصداقة متجددة. فما أحسن ما قاله أبو حيان التوحيدي: «الصديق آخر هو أنت!».
شوي تشينغ قوه بسام
الشرق الاوسط