يثير اتساع جبهة منتقدي تركيا، وخصوصا في موضوع تدخلها في ليبيا، وامتدادها في شرق المتوسط، التعجّب كونه من الصعب أن يجتمع كل هؤلاء على قضيّة واحدة، فهناك قوّتان عظميان من «عالمين» مختلفين نظريا: روسيا وفرنسا، وهناك اليونان وإيطاليا، وهما دولتان بحريتان جارتان، لكنّ الأولى تحاول استغلال المسألة الليبية للسيطرة على مجال أوسع ضمن المتوسط، لمزاحمة تركيّا، والثانية لا ترغب في التخلّي عن دورها التاريخي المعلوم في الموضوع الليبي، كما أنها لا تستطيع تجاوز حادثة ريجيني المتهمة بها الأجهزة الأمنية المصرية، التي وضعتها أمام الطبيعة الدكتاتورية الفظة لنظام عبد الفتاح السيسي.
هناك أيضا الإمارات ومصر والسعودية، الدول التي تزعم أنها تنتمي إلى تحالف واحد، لكنّ أبو ظبي قدّمت، عبر دورها في اليمن، وكذلك في دعمها للجنرال خليفة حفتر، أن لديها أجندة خاصّة، لا يمنع أن تتلاقى أحيانا مع خصوم السعودية وأعدائها، وهو ما عبّر عنه وزير النقل اليمني المستقيل صالح الجبواني أمس بالقول إن المستفيد في حرب اليمن هما إيران والإمارات، أما الخاسر فهو السعودية، وهناك أخيرا إسرائيل، التي قامت أمس بعمل رمزيّ معبّر حين أزالت لوحة توثّق ترميم تركيا مقبرة إسلامية في القدس.
هناك أيضا الاتحاد الأوروبي، الذي أكّد أن الأمم المتحدة هي المخوّلة بإجراءات اتفاق سلام في ليبيا، في رد على ما يسمى «المبادرة المصرية» لحل الأزمة الليبية، وكذلك على قرارات «البصم» في الجامعة العربية على ما تريده مصر والسعودية والإمارات في هذا الخصوص، كما أنه كان من ضمن فريق منتقدي تركيا فيما يخص التعامل مع المهاجرين، وهي الدولة التي فتحت حدودها لملايين منهم، وتجاهل سجل إساءات اليونان ودول أوروبية كهنغاريا للمهاجرين.
هذه «الجوقة» الجماعية المثيرة للاستغراب دفعت أنقرة للرد بعنف على بعضهم، حيث قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن «الرئيس إيمانويل ماكرون يقف وراء ارتكاب حفتر جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في ليبيا» كاشفا النفاق الفرنسي حول ليبيا حيث أنها عضو دائم في مجلس الأمن الدولي الذي يؤيد حكومة «الوفاق»، وهي طرف شرس في القتال ضد الحكومة الشرعية في الوقت نفسه.
كان لافتا أيضا اتهام جاويش أوغلو للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه «أداة» لكل من الإمارات وفرنسا، وهو توصيف صريح ينزع الصورة المصطنعة التي تحيط القيادة السياسية المصرية نفسها بها، والنابعة من تاريخ سابق لم يعد يتناسب البتة مع وزنها السياسي الحقيقي في العالم، بعد أن ساهم الانقلاب العسكري على حكومة منتخبة ديمقراطيا بتفكيك شرعيتها، وساهم أداؤها السياسي والاقتصادي في إمكانيّة تحرّكها منفردة، سواء كان الأمر يتعلّق بإشارتها إلى تدخل عسكري في ليبيا، أو حرب مع أثيوبيا، أو حتى في قضاياها الداخلية التي صارت مركّزة على القمع لأي تحرّك رمزيّ بسيط بما فيه احتجاج والدة معتقل، كما حصل مع الأكاديمية ليلى سويف، التي سلّط النظام عليها بلطجيات، وأخته التي حاولت مقابلة النائب العام فاختطفت وتحولت لسجينة.
أحد أسرار التصعيد التركي هو أن التموضع الشرس لهذه الأطراف السياسية ضد تركيا، جمع مرتزقة فاغنر الروس، مع نقل عشرات المقاتلات الحربية الروسية إلى ليبيا، مع أموال الإمارات، وغطرسة فرنسا، وفظاظة سلطات القاهرة، وهو تموضع يؤدي إلى رد فعل بالضرورة، عالميا، من قبل أمريكا التي قامت بإرسال رسالة واضحة بجمعها قائد القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا «أفريكوم» مع رئيس الوزراء الليبي فايز السراج، وبالتصريحات المتكررة لـ«أفريكوم» الرافضة للوجود الروسي.
النتيجة طبعا أن تجمّع أطراف عديدة متناقضة ولكل منها مصلحة خاصة به ضد حكومة شرعيّة ذنبها أنها نجحت في صد العدوان على مواطنيها، ودولة ناصرتها ضد حلف الأعداء الشرس، سيؤدي إلى رد فعل يوازيه إقليميا وعالميا.
القدس العربي