ماتت العولمة.. عاشت العولمة

ماتت العولمة.. عاشت العولمة

مع بداية انتشار فايروس كورونا اعتقدنا أن العالم في طريقه إلى التفتت، وأن العولمة في طريقها إلى الزوال. لنا عذرنا في ذلك؛ فالدول تغلق حدودها، والنقل البحري، والبري، والجوي مشلول، أو شبه مشلول، والمصانع، والمدارس، والحانات، والمطاعم، والمقاهي.. كلها مغلقة، وطوابير الفاقدين للعمل في تزايد، وأسعار النفط تتهاوى، ومعها تتهاوى أسواق المال.

سارعت الحكومات إلى فرض التباعد الاجتماعي، والحجر الصحي، ومنع التجول. وغدا العالم فجأة فضاء افتراضيا؛ نعمل، ونتعلم، ونتسوق، عن طريق الإنترنت. حتى ملامحنا غابت وراء أقنعة نحرص على ارتدائها لنحمي أنفسنا من الآخر. الإنسان خطر على الإنسان، لا يستثنى من ذلك أفراد الأسرة الواحدة والأصدقاء المقربون.

اليوم، لم يتغير شيء على صعيد انتشار الوباء؛ الإصابات مستمرة، والوفيات أيضا، وما زلنا نتخبط في سعينا لاكتشاف علاج أو لقاح، ولا يزال الغموض يلف الفايروس؛ معلوماتنا حوله بعد سبعة أشهر ناقصة ومتضاربة.

وبينما دول، تفتقد الإمكانيات المادية والعلمية، نجت من انتشار الوباء، نجد دولا عريقة في البحث العلمي غارقة في الإصابات.

لم تستطع الصين، وكوبا، وروسيا أن تحمي نفسها من العولمة، لأنها ببساطة مثل الهواء نتشارك فيه جميعا، سواء كان ملوثا أو نقيا

رغم ذلك، نتراجع بصمت عن القيود التي فرضناها في البداية، ونشرع في التخفيف منها خطوة خطوة، في اعتراف ضمني بأننا خسرنا المعركة، أو بالأحرى سلكنا الطريق الخطأ في مواجهتها.

لم تكن الاستراتيجية التي اتبعتها الحكومات صحيحة؛ غلق الحدود، وفرض حظر التجول، وإغلاق المصانع والمؤسسات الحكومية والاقتصادية، وإبعاد التلاميذ عن المدارس، كلها إجراءات خاطئة.

تراجعنا الآن يكشف الخطأ الذي ارتكبناه، عندما اتخذنا مثل تلك الإجراءات، ولكن لا أحد يريد أن يعترف بذلك، لا نملك الجرأة على تحمل المسؤولية. من يمنح صوته لسياسي يعترف بأنه مخطئ؟

الدكتاتور فقط يمعن في ارتكاب الأخطاء دون مبالاة، السياسي يقدم عادة استقالته.

كان كافيا أن نؤمن الحماية للفئات الأكثر عرضة لخطر الإصابة وخطر الوفاة، من المسنين ومن مرضى يعانون من أمراض مزمنة.

لقد ثبت بالبرهان أن العالم لا يستطيع أن يتحمل فاتورة غلق الحدود، والتنكر لمظاهر العولمة. وذلك لسبب بسيط جدا، ولكنه رغم بساطته غاب عن أذهاننا.

العولمة ليست أيديولوجيا نتبناها، مثلما تبنينا الاشتراكية، والرأسمالية، والشيوعية وما بينها من تفرعات. العولمة نتاج طبيعي، كما هو التغير البيئي لا نستطيع أن نوقفها، ولكن نستطيع توظيفها والتخفيف من آثارها القاسية على البشر.

لم تستطع الصين، وكوبا، وروسيا أن تحمي نفسها من العولمة، لأنها ببساطة مثل الهواء نتشارك فيه جميعا، سواء كان ملوثا أو نقيا.

عندما نتحدث عن مخاطر التلوث نحن عادة لا نوجه اللوم في ذلك إلى الهواء أو الماء، بل نوجهه إلى أنفسنا نحن البشر، الذين ارتكبنا، ولا نزال نرتكب، كل الحماقات التي تؤدي إلى تفاقم المشكلة، رغم آلاف المقالات، والدراسات، والمؤتمرات، والاحتجاجات التي تحذرنا من مخاطر التلوث.

لم يتغير شيء على صعيد انتشار الوباء؛ الإصابات مستمرة، والوفيات أيضا، وما زلنا نتخبط في سعينا لاكتشاف علاج أو لقاح، ولا يزال الغموض يلف الفايروس؛ معلوماتنا حوله بعد سبعة أشهر ناقصة ومتضاربة

مشاكل العولمة شبيهة، إلى حد التطابق، بمشاكل التلوث، نحن لا نستطيع التخلي عن الماء والهواء، وأيضا لا نستطيع التخلي عن العولمة، التي أطلقنا عليها خطأ لقب “ظاهرة”.

فالعولمة ليست “ظاهرة”، بل هي تطور طبيعي رافقته آلام ومصاعب، ولكن ذلك لا يعني بتاتا أن بمقدورنا الاستغناء عنها أو إيقافها.

تجربة كورونا تؤكد ذلك، وها نحن نتراجع ولو ببطء عن كل القرارات التي اتخذناها.

بعض منا امتلك الجرأة منذ البداية، وحذر من موجة الذعر التي رافقت انتشار الوباء، ودعا صراحة إلى ضرورة استمرار الحياة بشكلها الطبيعي، والاكتفاء بإجراءات وقائية، منها حماية المسنين والضعفاء.

لم ينج هؤلاء حينها من التشهير والاتهامات، حتى بعد أن أكدت الأيام صواب رأيهم، وأن العولمة، التي أعلنا وفاتها، حية اليوم أكثر مما كانت عليه قبل كورونا.

العرب