لندن – ستحدد سلسلة من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2024 الاتجاه السياسي في بلدان تمثل حوالي 40 في المئة من سكان العالم وحوالي نصف ناتجها المحلي الإجمالي. وسيشهد عدد كبير من هذه السباقات أداء قويا للأحزاب القومية بفضل خطاباتها التي تدعو إلى التخفيف من آثار العولمة (وحتى عكسها في بعض الحالات).
وتروج بعض هذه الأحزاب وقادتها للحمائية لدعم الصناعات المحلية مقابل المنافسة الأجنبية، وينتقد بعضها الآخر المنظمات الدولية التي يرون أنها تقوض السيادة الوطنية. ويعتبر الكثيرون الهجرة تهديدا للهوية الوطنية والأمن وفرص العمل التي كانت ستكون قصرا على السكان الأصليين في بلدانهم.
ويتساءل الكاتب أدريانو بوسوني في تقرير نشره موقع ستراتفور عن الكيفية التي ستؤثر بها هذه الانتخابات على تطور العولمة في الأجلين القصير والمتوسط حين يدرك الوزن الاقتصادي المشترك للبلدان التي ستشهد انتخابات هذا العام والاتجاهات الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء المشاعر المناهضة للعولمة.
للإجابة على هذا السؤال، يجب أن ننظر أولا في إمكانية تسارع العولمة خلال العقد القادم رغم الاتجاهات الاجتماعية والسياسية الحالية. وسيشهد العالم في هذا السيناريو التزاما قويا بالتعاون والترابط العالميين، حيث تتعاون البلدان لمواجهة التحديات المشتركة مثل تغير المناخ والأوبئة المحتملة والفقر واللامساواة.
وستعمل الحكومات على تعزيز المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، حتى تتمكن من تحقيق هذه الأهداف. كما سيشهد العالم تخفيضا في الحواجز أمام التجارة والاستثمار الدوليين، بينما ستعزز زيادة الاستثمار في البنية التحتية المادية والرقمية الاتصال العالمي.
ولن تواجه سلاسل التوريد الواسعة والمتنوعة في العالم مخاطر كبيرة مدفوعة بالقرارات الحكومية. وسيبرز إجماع واسع النطاق (في الغرب أو في الجنوب العالمي) على المستوى السياسي حول فوائد العولمة بالنسبة للتنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي، مما سيدفع الأصوات المناهضة للعولمة إلى هامش السياسة والأوساط الأكاديمية.
ويسهل أن نرى الأسباب التي تجعل تصديق هذا السيناريو أمرا صعبا، وخاصة خلال النصف الثاني من العقد الحالي. وسيتطلب هذا الأمر أولا انخفاضا كبيرا في النزاعات التجارية العالمية، والمنافسة الجيوسياسية والصراعات الإقليمية، وهو ما يبدو غير مرجح في خضم التنافس الإستراتيجي المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، والحروب المستمرة في أوكرانيا والشرق الأوسط، وبؤر التوتر مثل تايوان.
وستواصل هذه العوامل تشكيل السياسة العالمية خلال السنوات المقبلة. كما يحمل العنصر السياسي أهمية مماثلة، حيث يمثل صعود القومية في معظم أنحاء العالم (وهو أمر مرتبط بمشاكل تشمل السخط الاقتصادي، وارتفاع اللامساواة والاستقطاب السياسي) عقبة كبيرة أمام هذا السيناريو كذلك. وإذا أوصلت بعض الانتخابات عبر العالم في 2024 إلى السلطة قادة يروجون للسياسات الحمائية والقومية (كما هو متوقع)، فسيصعب على المتحمسين للعولمة دعم قضاياهم في النصف الثاني من العقد الحالي وحتى بعد انقضائه.
لننظر الآن إلى سيناريو التراجع العميق للعولمة. ستتقلص فيه الروابط الدولية والاعتماد المتبادل بين البلدان. وستخضع أكبر اقتصادات العالم لإدارات تقصر الأولوية على مصالحها الوطنية مقابل التعاون العالمي، وإن كان ذلك على حساب النمو الاقتصادي والابتكار والاستثمار. وستصبح السياسات التجارية الحمائية (مثل التعريفات الجمركية والحواجز التجارية) أقوى وأكثر انتشارا، مما سيقلص التدفق الحر للسلع والخدمات عبر الحدود. كما ستصبح البلدان غير متسامحة أكثر مع الهجرة، مما سيقلل من حركة الأشخاص والمواهب عبر الدول.
وستمهد المخاوف من العلاقة بين التكنولوجيا والأمن القومي في ظل هذا السيناريو الطريق لانفصال تكنولوجي شديد، حيث ستحاول مختلف الدول تطوير أنظمة إيكولوجية تكنولوجية منفصلة تضعف قابلية التشغيل البيني العالمي. وبينما شهد العالم في السنوات الأخيرة بوادر هذه الاتجاهات، إلا أن سيناريو تراجع العولمة العميق لا يزال غير محتمل في الأجلين القصير والمتوسط.
ويُذكر أن التجارة العالمية شهدت انحسارا وتوسعا على مدى العقد الماضي، ولكنها لم تتراجع كثيرا رغم جاذبية الخطاب والسياسات الحمائية، ونمت سنويا (مع استثناء ملحوظ خلال ذروة كوفيد – 19 في 2020). ورغم تقلص الاتفاقيات التجارية إلا أنها لم تتوقف، حتى إن جل البلدان تسعى اليوم إلى تنويع سلاسل التوريد التي تعتمدها ومكافحة المخاطر التي تعاني منها، وهو أمر يتطلب صفقات مع شركاء أكثر موثوقية، وليس قطع العلاقات مع العالم الخارجي.
ومن المهم إدراك كون أهم التقنيات التي يعتمدها عالمنا اليوم تشمل سلاسل التوريد العالمية باهظة القيمة التي لا يسهل استبدالها محليا. ويُذكر، على سبيل المثال، أن صنع أشباه الموصلات المتطورة يتطلب جهودا مشتركة تبذلها الشركات في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا والمحيط الهادئ. ولن تتمكن الشركات والحكومات من تعويض هذه الجهود خلال العقود القادمة على الأقل.
سيكون السيناريو الأكثر منطقية خلال السنوات المقبلة بين هذين الخيارين المتطرفين، حيث ستستمر العولمة، ولكنها ستكون أكثر تجزؤا من شكلها الحالي. ومن غير المرجح أن تشهد تسارعا أو انعكاسا مهمينا، ويبدو السيناريو الهجين أكثر قبولا في ظل الاتجاهات الاقتصادية والسياسية القائمة في عالمنا اليوم.
وقد تفقد التجارة الدولية زخمها التراكمي، ولكنها ستبقى مكثفة في أجزاء متعددة من العالم، وستواصل التكنولوجيا خلق فرص للتكامل الدولي. لكن القوى الكبرى، ومن أبرزها الولايات المتحدة والصين، ستسرع السعي لتوسيع مناطق نفوذها الخاصة، بينما ستعمل دول الجنوب العالمي (من البرازيل إلى الهند) على إنشاء مؤسسات دولية وأطر تعاون تتشكل بالتوازي مع تلك التي يهيمن عليها الغرب.
وسيمكن ذلك الظهور التدريجي لنظم إيكولوجية تكنولوجية منفصلة وشبكات مالية واتفاقات تعاون. وستصبح الثنائية والحمائية أكثر انتشارا من التعددية والتحرير، حيث ستمنح مختلف البلدان والمؤسسات الأولوية للاكتفاء الذاتي وتسعى إلى إزالة المخاطر من سلاسل التوريد الخاصة بها. وستصبح بذلك إعادة الهيكلة واستعادة التصنيع المحلي وحتى قصر التعاون فيه على الحلفاء أكثر انتشارا في إستراتيجيات المؤسسات والحكومات الرامية إلى الحد من المخاطر المرتبطة بسلاسل التوريد.
◙ تشابك التكنولوجيا والأمن القومي سيتعمق في هذا العالم، وستكون تأثيرات العولمة المجزأة أكثر حدة في صناعات التكنولوجيا فائقة الحساسية
وسيتعمق تشابك التكنولوجيا والأمن القومي في هذا العالم، وستكون تأثيرات العولمة المجزأة أكثر حدة في صناعات التكنولوجيا فائقة الحساسية سياسيا والحاسمة اقتصاديا والإستراتيجية عسكريا. كما سيشتد السباق على الهيمنة التكنولوجية (خاصة بين القوى العالمية الكبرى، ولكن بين القوى المتوسطة أيضا) في قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والتصنيع المتقدم.
وسترى مختلف الحكومات هذه القطاعات ضرورية لأمنها القومي. وهذا ما سيعني أن البيانات (وخاصة تدفقها عبر الحدود) ستواجه ضغوطا متزايدة للتجزئة. ويمكن لذلك أن يصبح المشهد التكنولوجي العالمي مجزأ أكثر مع تباعد معايير التكنولوجيا العالمية المتزايد في ظل الجهود الأميركية والصينية لتقويض تطور بعضهما البعض التكنولوجي وتشكيل هذه التقنيات بما يتماشى مع تفضيلاتهما وقيمهما ومصالحهما الإستراتيجية. وستضطر الحكومات والشركات شيئا فشيئا إلى اختيار أحد الجانبين، وتكييف نماذج أعمالها والامتثال للوائح متباينة.
وستشهد أهمية المؤسسات العالمية تراجعا في الأثناء، مع تزايد صعوبة التعاون بين البلدان. ورغم أن عددا من القضايا كالمناخ ستبقى نقطة مهمة في جداول أعمال العديد من الحكومات، إلا أن التعاون العالمي قد يصعب في عالم يزداد تجزّؤا. لكن هذا لا يعني نهاية التعاون الدولي، حيث يمكن أن تصبح بعض المنظمات متعددة الأطراف أكثر نشاطا إذا فشلت نظيراتها العالمية في بلوغ النتائج المرجوة. ومن المرجح أن تزيد الصين من دعمها للكيانات الموازية (من بنوك التنمية إلى المنتديات الأمنية) لتقويض نفوذ الولايات المتحدة وزيادة نفوذها هي بنفس الطريقة التي سعت بها الولايات المتحدة إلى بناء هياكل تعاون متعددة الأطراف خلال الحرب الباردة.
سيخلق هذا العالم فرصا للبلدان التي ستتمكن من الإبحار في مياه العولمة المجزأة المضطربة، وخاصة التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين. ويمكن اعتماد مثال فيتنام، حيث تجذب البلاد الاستثمارات من الشركات (خاصة في صناعة الإلكترونيات) التي تنقل بعض مراحل الإنتاج من الصين خوفا من ارتفاع تكاليف العمالة والتنافس المتزايد مع الولايات المتحدة.
وتتبع فيتنام بذلك سياسة خارجية بارعة. ففي سبتمبر 2023، رفعت البلاد علاقتها مع الولايات المتحدة إلى “شراكة إستراتيجية شاملة”. وأعلنت بعد شهرين عن 37 صفقة مع بكين (بما في ذلك العلاقات الدبلوماسية والسكك الحديدية والاتصالات السلكية واللاسلكية) خلال أول زيارة للرئيس الصيني شي جينبينغ إلى هانوي منذ ست سنوات.
وتجسّد المكسيك مثالا آخر، حيث شهدت مؤخرا زيادة استثمار الشركات الصينية في الحقول الخضراء. وتطمح بكين إلى استغلال الدولة الواقعة في أميركا اللاتينية (التي تجمعها اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة) للحفاظ على وصولها إلى السوق الأميركية في وقت تتصاعد فيه توتراتها التجارية مع واشنطن.
وتتبع المكسيك (مثل فيتنام) سياسة خارجية متوازنة. ووصف الرئيس أندريس مانويل لوبيس أوبرادور ونظيره شي جينبينغ العلاقة بين المكسيك والصين خلال اجتماع عقد في أواخر نوفمبر، بأنها “مفيدة للطرفين”. ونشرت الحكومة الصينية بيانا أكدت فيه أن بكين مستعدة “لتعزيز العلاقات الثنائية”. وحدث هذا عندما أصبحت المكسيك أكبر مصدّر للبضائع إلى الولايات المتحدة في العالم خلال 2023، وهو ما دفع الصين إلى المركز الثاني لأول مرة منذ عقد ونصف العقد.
◙ هذا العالم سيخلق فرصا للبلدان التي ستتمكن من الإبحار في مياه العولمة المجزأة المضطربة، وخاصة التنافس المتزايد بين الولايات المتحدة والصين
وتوضح المشاهد في فيتنام والمكسيك أن العولمة تعيد التشكل أكثر مما هي في تراجع. وعلى الرغم من أن البيانات الرئيسية تبرز ارتفاع واردات الولايات المتحدة من كلا البلدين، إلا أن الشركات الصينية كانت من بين الأكثر استثمارا في فيتنام والمكسيك. وتشكل المنتجات الصينية اليوم حصصا كبيرة من السلع المصدرة من البلدين إلى الولايات المتحدة.
وليست إستراتيجية فيتنام والمكسيك جديدة، حيث سعت العديد من الدول خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، إلى تحقيق توازن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. لكن المنافسة المتزايدة بين واشنطن وبكين في ظل العولمة المجزأة ستضغط على الحكومات لتكييف سياساتها الخارجية وفقا للواقع. وسيكون اغتنام فرصة لعب دور الطرف الثالث بين الولايات المتحدة والصين بنفس أهمية الحفاظ على علاقات دبلوماسية ودية مع كليهما.
ويكمن التحدي الذي يواجه هذه البلدان في أن نجاح هذه الإستراتيجية يرتبط ببقاء التوترات الجيوسياسية قابلة للإدارة. وقد يبلغ العالم مرحلة تضطر خلالها هذه الدول إلى اختيار جانب أو المخاطرة بصراع مع القوة العالمية الأقرب لها جغرافيا. ولا تخلو هذه الإستراتيجية بالطبع من المخاطر في عالم متزايد الحمائية. ويمكن للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، على سبيل المثال، إذا فاز بولاية ثانية محتملة أن يدفع إلى إعادة التفاوض على بعض شروط الصفقة التجارية مع المكسيك أو فرض تعريفات أعلى على السلع الفيتنامية لتقليل العجز التجاري الذي تشهده بلاده مع كلا الطرفين.
وستشكل الانتخابات التي ستشهدها العديد من دول العالم خلال 2024 المشهد السياسي العالمي للنصف الثاني من العقد على الأقل. وستؤثر الأيديولوجيات القومية والمناهضة للعولمة على العديد من النتائج بالتأكيد. وبينما لن يؤدي هذا إلى عملية عميقة لإلغاء العولمة، إلا أنه لن يسهم في تسريع النزعة.
ومن المنتظر أن تعزز المنافسة الجيوسياسية التشرذم التجاري والتكنولوجي الذي سيؤثر على العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدان. وسيشكل سيناريو العولمة المجزأة تحديات أمام التعاون الدولي والشركات متعددة الجنسيات، حيث أصبحت العلاقات الثنائية (أو “المصغرة”) والحمائية أكثر انتشارا. لكن الفرص ستتوفر أمام البلدان (والمؤسسات) التي تبحر بمهارة في أمواج العولمة المجزأة، حيث ستتضاعف فوائدها الاقتصادية في أعين الآخرين.
العرب