بعد أن هدأت الساحة السورية، على الأقل فيما يتعلق بالعمليات العسكرية الشاملة والاشتباكات المتواصلة، أصبحت ليبيا هي أكثر ساحات المنطقة القابلة للصدامات العسكرية، هذا على الرغم من أنه أصبح من الواضح أن جميع الأطراف الليبية غير قادرة على حل المعارك العسكرية لصالحها، حتى بمساعدة خارجية، مع سيولة الساحة الليبية والأوضاع الخارجة عن السيطرة على الأرض وعبر الحدود والمنافذ.
ومن المدهش مدى تلعثم المجتمع الدولي في التعامل مع مخاطر المشكلة، والفشل في ضبط الأمور أو حتى تحريكها سياسياً، والمثال الأخير على ذلك هو اجتماع مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي، الذي لم يكشف عن موقف واضح أو يفرض إجراءات عملية، وليس من قبيل المبالغة القول إن العديد من الأطراف الدولية تتعامل مع الأمور بنظرة تكتيكية، وتسعى إلى تحقيق مكاسب قصيرة الأجل وأحياناً لحظية لمواجهة الأحداث، ودون الأخذ في الاعتبار أن ذلك يكون أحياناً على حساب مصالحهم الاستراتيجية طويلة المدى.
ومع أحداث العنف الأخيرة والعمليات العسكرية في الساحة الليبية ومحيطها، هناك احتمالات متزايدة لتفاقم الموقف وانفلاته، نتيجة لتعدد الأطراف الليبية والخارجية في الساحة، بما في ذلك الأطراف غير المسيطر عليها كلياً، وقد يرى أي منها مصلحة في إشعال الموقف، بما يفرض على الأطراف الوطنية رد فعل بما في ذلك من خلال الأدوات العسكرية، وأعتقد أننا وصلنا إلى لحظة فارقة، تتطلب مراجعة المواقف والمصارحة قبل فوات الأوان.
بإيجاز شديد وبدون مبالغة، تحولت الساحة الليبية من دولة فاشلة وطنياً ومنهارة إلى ساحة ترمح وتعبث فيها دول شرق أوسطية غير عربية وأجنبية، وينتشر فيها المرتزقة والمتطرفون والميليشيات، وأصبحت على حافة الانقسام بين الشرق والغرب والجنوب، دون سيطرة ثابتة لأي طرف على أي منطقة لفترة طويلة، مما يغذي عدم الاستقرار وانفلات الساحة الليبية ويصعب السيطرة عليها مستقبلاً.
مواقف وأوضاع مصر وتونس والجزائر هي الأكثر وضوحاً واستقراراً، رغم اختلافها في بعض الجوانب والتفاصيل حول تيارات الإسلام السياسي، علماً بأن الوسط السياسي في الدول الثلاث يخشى هذا التيار، بصرف النظر عن تباين سبل التعامل معه، بين الرفض الكامل في مصر، والضبط الأمني في الجزائر، والاصطدام السياسي والجدل الحامي في تونس، ومرجعية الدول الثلاث وأولويتها في سياستها تجاه ليبيا هي السعي لضمان تأمين أمنها القومي، ومن ثم تشعر مصر والجزائر والوسط السياسي في تونس بقلق بالغ إزاء انهيار الوضع الليبي ليقينها أنها أول من سيدفع الثمن غالياً من تداعيات الموقف وعبث الآخرين، ومن هذا المنطلق تتفق هذه الدول على خلاصات قمة برلين، التي كانت أساس إعلان القاهرة الذي جمع حفتر وعقيلة صالح ، وكذلك ما أعلنته الجزائر بعد ذلك عن استعدادها لاستضافة الأطراف لمزيد من الحوار والتفاوض.
وعلى مستوى دول الشرق الأوسط غير العربية، فإن أبرز الأدوار وأقلها شرعية وأخطرها استراتيجياً هو الموقف التركي، ويرتكز على توسيع نفوذ تركيا الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وتبني ودعم “تركيا أردوغان” وحزبه لتأمين مصالح أوسع وأكثر في ساحة ومجال الطاقة بشمال أفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن استمرار وتعمد “تركيا أردوغان” خلق مصادر القلق لمصر، على أساس أن ثورة 30 يونيو (حزيران) قد قطعت الطريق أمام استخدام تركيا للتيار الإسلامي السياسي مرجعية ونقطة انطلاق لانتشار شرق أوسطي ودولي، وسعياً لضمان استمرار انشغال مصر بمحيطها الجغرافي المباشر على حساب استعادة دورها الإقليمي العربي لكي تفرغ الساحة المشرقية لتركيا ترمح وتجول فيها، كما أن لتركيا تطلعات خاصة بالطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وأدرك أن الدور والسياسات الروسية الاستراتيجية تهدف إلى توسيع وجودها في شمال أفريقيا في سياق استعادة جزء من دورها العالمي، فضلاً عن اهتمامها بضمان دور فعال ونشط في أسواق الطاقة العالمية، ولا أرى غضاضة لهذه المواقف، فمن الطبيعي أن يكون للدول طموحات وأدوار داخل وخارج إطارها الإقليمي المباشر، بخاصة بالنسبة للدول الكبرى أو التي كانت عظيمة، طالما كانت في حدود الشرعية الدولية.
وإنما تقتضي الأمانة أيضاً التنويه أن بعض المواءمات الروسية تبدو في تناقص مع مصالحها التقليدية والاستراتيجية، فكيف يمكنها أن تظل صامتة على التوسع التركي الطموح في شمال أفريقيا، مع تداعيات ذلك على الأمن القومي للدول العربية المجاورة، بخاصة مصر والجزائر التي كانت تعتبرهما روسيا ركيزتي منظومة الدولة الوطنية العربية في الشرق الأوسط، والحاجزين الأساسيين أمام تفتيت المنطقة إلى دويلات وفصائل وتيارات التي تزرع الفرقة والاضطرابات وعدم الاستقرار من الأطلنطي غرباً إلى المشرق شرقاً، وكيف تصمت روسيا عن نقل الميليشيات والمرتزقة والمتطرفين من المشرق لدعم الموقف التركي في ليبيا، من أجل خلق مساحة من الاضطراب والتطرف، واعتبار الأراضي الليبية ساحة انطلاق لها.
وأستغرب حقاً من التزام الصمت الروسي بشأن كل ذلك، حيث أتذكر المحادثات الرسمية لي في عامي 2013 و2014 مع وزير الخارجية الروسي ومستشار الأمن القومي بالكرملين، وكذلك في لقاءات مع الرئيس بوتين شخصياً، وانصب خلالها التركيز الروسي حينذاك على أن التطرف في الشرق الأوسط من شأنه أن يهدد المصالح الروسية، ليس فقط في الشرق الأوسط، وإنما قد يؤثر أيضاً في الساحات الروسية الوطنية، فلا أعتقد أن هذه النظرية السياسات قد تغيرت، وإنما قد يكون الفراغ الأميركي بالمنطقة، وانشغال روسيا بتركيا في المشرق قد فتح نِفس الروس على هضم نسبة أكثر من المواءمات التكتيكية على حساب صحتها الاستراتيجية واستقرار المنطقة والأصدقاء، وهو خطأ كبير.
ولعل المواقف الأضعف والأكثر رعونة هو ما نجده على الساحة الأوروبية، والمجاورة لمخاطر عدم الاستقرار في شمال أفريقيا وليبيا تحديداً، والسؤال المحير هو ألا تخشى أوروبا فتح الساحة الليبية على الملأ للتطرف والميليشيات، مع كل ما يحمله ذلك من تداعيات مباشرة على الجميع بخاصة مع الضغوط المتوقعة من تنامي اللاجئين في أوروبا بشكل عام؟، فهل يعقل أن يظل القادة الأوروبيون صامتين وغافلين عن هذه المخاطر؟، هل غلوشت المنافسة الفرنسية الإيطالية على الموارد الاقتصادية الليبية على تقدير المخاطر الأمنية الناتجة عن عدم الاستقرار؟.
وأين القيادات الأوروبية الأخرى باكورة القارة العجوز؟، المفترض أن تكون تجارب التاريخ قد أثقلت لديهم القدرة على التعامل مع الأوضاع الآنية والاستراتيجية في آن واحد، وأين الدول الأوروبية التي تتباهى وتفتخر بالدفاع عن النظام الدولي واحترام القانون؟، أم أن الحماس لحماية المبادئ تبخر سريعاً أمام حرارة المواجهة وثمن تحمل المسؤولية؟، أين الحضارة والإنسانية والحكمة في السكوت على نقل المتطرفين والمأجورين من تركيا إلى ليبيا؟ كل هذا في وقت يشهد فيه سكرتير عام الحلف الأطلنطي ويتحدث عن أهمية تركيا، متجاهلاً تصرفاتها الخطيرة وغير المقبولة، كما لو كان تداعيتها محدودة ويمكن استيعابها.
ولا أخفي تعجبي من الموقف الأميركي، حتى في ظل الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها أغنى وأقوى دول العالم، في ظل الاضطراب السياسي للمجتمع الأميركي ورئاسة دونالد ترمب غير التقليدية، الذي يعمل على تجنب الانهماك في مواقف سياسية، بلاده في غنى عنها، وموقف الدولة العظمى هو موقف الحاضر الغائب الذي لم يتجاوز التصريحات الدبلوماسية العامة والسلبية، التي سمحت وإن لم تكن قد شجعت الأطراف مثل تركيا التحرك دون تردد، والأطراف المصاحبة لذلك الادعاء بأن أميركا معها أيضاً، في حين أنها ليست هنا أو هناك، وللأسف لن يتغير موقفها أو يؤخذ على محمل الجد إلا بعد الانتخابات الأميركية في أفضل الظروف.
ترتيباً على ما تقدم وباعتبارها أكثر الدول تأثراً بالاضطرابات وتداعيات الأحداث، أو الأكثر فاعلية في التصدي لها، وعلى رأس هذه الأحداث التوغل التركي غير المسبوق على الساحة، أرى أهمية تكثيف الحوار المصري الدبلوماسي الدولي وعلى أعلى مستوى، ولعل الجزائر تنضم إليها، ويشمل تونس إذا أرادت، والبدء مع روسيا، لدورها النشط مشرقياً وفي شمال أفريقيا وتداخلها مع تركيا في عدة ساحات، والتحاور كذلك مع ألمانيا المضيفة لقمة برلين، التي صدر على أساسها إعلان القاهرة، باعتبارها رئيسة الاتحاد الأوروبي في المرحلة المقبلة، ومن ثمّ المؤهلة للتوفيق بين تعارض المواقف الفرنسية والإيطالية، وحشد الموقف الأوروبي ضد التدخلات التركية وممارساتها التي من شأنها المساس باستراتيجية الأمن الأوروبي ومصالح القارة الاقتصادية والاجتماعية.
واستكمالاً لهذه الخطوة، لا يجب إغفال الدور الأميركي كلياً، رغم ضآلة تأثيره واهتمامه حالياً، لأن حل المعادلة الليبية مع تعدد الأطراف والمصالح تتطلب صفقة سياسية لها جوانب رادعة وأخرى محفزة ، من أجل ضمان احترام مبادئ القانون الدولي وعلى رأسها عدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتصدي للإرهاب والتطرف، والحفاظ على الأمن الإقليمي والدولي، وعدم إغفال أمن منطقة البحر الأبيض المتوسط وأسواق الطاقة.
والغرض الرئيس من هذا هو:
أ – وقف إطلاق النار على المواقع الحالية، والتزام كافة الأطراف عدم تجاوزها.
ب – تشكيل لجنة دولية مع فريق من المراقبين والخبراء من الأمم المتحدة وقرار من مجلس الأمن لرصد التدخل الخارجي في ليبيا، مع وجود خاص في أماكن التهريب من الخارج وفي المطارات والموانئ.
ج- بدء حوار سياسي ليبي قائم على مخرجات قمة برلين وإعلان القاهرة تحت الإشراف المباشر للسكرتير العام للأمم المتحدة، في ضوء تعذر جهوده لتعيين مبعوث شخصي جديد في الساحة الليبية نتيجة الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا.
وأخيراً وليس آخرَ، لعل العالم العربي يستخلص من هذا المشهد الخطير العابث، أن عليه إصلاح نفسه داخلياً وإقليمياً، للاستفادة من توافقه كلما أمكن وإدارة اختلافاته بحكمة كلما وجدت، فالخيارات ليست بين التطابق الكامل أو التصادم والقطيعة، هذا فضلاً عن تجنب الاعتماد المبالغ فيه على الغير لأن الأمن القومي العربي إطاره الأساس إقليمي شرق أوسطي، والمسؤولية تقع علينا في المقام الأول، ولنا في هذا حديث آخر.
نبيل فهمي
اندبندت