مرت أمس، الذكرى السنوية الرابعة للمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، فكانت مناسبة لإعادة طرح المواقف من ذلك الحدث الذي ما زال يحتفظ بكثير من غموضه، بسبب التكتم الرسمي على تفاصيل كثيرة قد يكون من شأنها تغيير «الحقيقة» الرسمية تغييراً جذرياً. أليس هذا زمن «ما بعد الحقيقة»؟
ولعل السؤال الأساسي بشأن تلك الليلة الغريبة يبقى: كيف للمؤسسة العسكرية، التركية، المتمرسة في الانقلابات العسكرية أن تقوم بعمل هواة كالذي شهدناه جميعاً ليلة 15 تموز 2016؟ ذلك أن تاريخ تركيا الحديث إنما هو تاريخ انقلابات عسكرية ناجحة، تخللتها استراحات «ديمقراطية» مكتومة الأنفاس تحت الظل الثقيل للمؤسسة التي طالما اعتبرت نفسها الحارس المؤتمن على النظام الجمهوري العلماني، وشعارها هو أن السياسة أكثر أهمية من أن تترك للسياسيين.
في حين أن المجموعة الانقلابية في 2016 فعلت كل ما في وسعها لإثبات أن المؤسسة العسكرية غير مؤهلة حتى للاستيلاء على السلطة، ناهيكم عن اعتبار نفسها وصية على الحياة السياسية. وإلا ما الذي يمكن قوله بشأن المجموعة التي قيل إنها كانت مكلفة باغتيال الرئيس أردوغان في مصيف مرمريس، تلك المجموعة التي سألت سائق تاكسي عن عنوان الفندق الذي يقيم فيه الرئيس!
هذا وأسئلة كثيرة مشابهة تطرحها الأوساط المعارضة، لكنها متفقة جميعاً على مسؤولية جماعة فتح الله غولن عن المحاولة الانقلابية في الوقت نفسه، لتنصب شكوكها على مدى المعرفة المسبقة للسلطة السياسية بخطة الانقلابيين، وتلاعبها المحتمل بهم تحقيقاً لأهداف سياسية تحققت فعلاً في السنوات التالية، ويمكن تلخيصها بأنها إقامة نظام سياسي مختلف قائم على تفرد رجل واحد بالحكم وسحق كل معارضة محتملة.
صحيح أن أردوغان تمكن من التفرد بالحكم من خلال الانتقال إلى النظام الرئاسي، وفقد البرلمان دوره ووزنه في السلطة، كما أصبحت الحكومة برئاسة رئيس الجمهورية نفسه، وفقدت السلطة القضائية استقلاليتها إلى حد كبير لتتحول إلى أداة تصفية للمعارضين، ومن المفترض أن يكون في غاية الرضى والاطمئنان. لكنه ليس كذلك.
يمكن إدراج القرار بإعادة صفة الجامع لمتحف آيا صوفيا، بقرار قضائي، في السعي إلى إعادة استقطاب الرأي العام المحافظ الإسلامي والقومي. ففي القرار توكيد على موضوع السيادة الوطنية في مواجهة «الغرب» الامبريالي
فمن جهة أولى أصبح أسيراً للتحالف مع دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية، الذي يدين له بتغيير النظام إلى رئاسي، ولا يضمن فوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة بدون استمرار دعمه؛ ومن جهة ثانية تقلصت القاعدة الاجتماعية لحزبه بنتيجة الانشقاقات التي حدثت أو تلك التي قد تحدث قريباً وفقاً لتسريبات شائعة. وسبب هذا التراجع في شعبية الرئيس وحزبه، وفقاً للبيئات المعارضة، هو أنهما فقدا القدرة على تقديم مشروع إيجابي وعلى بث الأمل، وباتت قضيتهما الوحيدة هي البقاء في السلطة. وقد شكلت نتائج الانتخابات البلدية بين آذار وحزيران 2019 إنذاراً مبكراً بتراجع الشعبية المذكور. وبدلاً من تلقي الدرس بصورة إيجابية والعمل على استعادة ثقة الجمهور بالحكم، واصل هذا ما كان يعمله قبل الانتخابات من إجراءات سلطوية وتفرد بالقرار والتمسك بمكاسب السلطة وإرضاء الحليف القومي الصغير ذي الفعل الكبير.
يمكن إدراج القرار بإعادة صفة الجامع لمتحف آيا صوفيا، بقرار قضائي، في هذا السياق من السعي إلى إعادة استقطاب الرأي العام المحافظ الإسلامي والقومي. ففي القرار توكيد على موضوع السيادة الوطنية في مواجهة «الغرب» الامبريالي وفقاً للرطانة القومية ـ الإسلامية ـ اليسارية. وهو موضوع «بياع» شعبياً، الأمر الذي يؤكده تجمع عشرات المواطنين أمام ذلك الصرح الأثري المهيب، بعد صدور قرار محكمة التمييز بإبطال قرار قضائي سابق يعود إلى العام 1934 كان قد نص على تحويل الجامع إلى متحف، بانتظار سماع أول أذان منه بعد انقطاع 85 عاماً. وقد قوبل الأذان بتكبيرات الجمهور. ما يرجح هذا التحليل، أي اعتبار القرار سياسياً أو استثماراً سياسياً هو أن الرئيس أردوغان سبق ورفض رفضاً قاطعاً تحويل المتحف إلى جامع، قبل عام واحد فقط. فحين طرح الموضوع رد أردوغان قائلاً: «بدلاً من المطالبة بتحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع، املأوا جامع السلطان أحمد بالمصلين» في شكوى ضمنية من قلة أعداد المصلين على رغم آلاف الجوامع المفتوحة للخدمة العامة في إسطنبول. وجامع السلطان أحمد المذكور في التصريح هو تحفة معمارية تنتصب في مواجهة آيا صوفيا، تفصل بينهما ساحة عامة. ما يعزز أهمية التوقيت السياسي للقرار هو أن الجمعية نفسها التي طالبت محكمة النقض بإبطال قرار 1934، سبق وقدمت الطلب نفسه للمحكمة نفسها في العام 2005، وجاء قرار المحكمة برفض الطلب. فلم تكن السلطة، في التاريخ المذكور، بحاجة إلى عمل استعراضي لشد الجمهور، وكان حكم حزب العدالة والتنمية يحقق نجاحات كبيرة تكفلت بذاتها بالتفاف الناس حولها. ومن ناحية أخرى كان القضاء مستقلاً بخلاف وضعه الآن، والأصح أن نقول إن المؤسسة القضائية كانت بلون كمالي طاغ، فما كان لها أن تبطل قراراً من عهد أتاتورك. من هذا المنظور الأخير يمكن اعتبار القرار الجديد نوعاً من ثأر متأخر من نظيره القديم الأتاتوركي، ثأراً له شعبية كبيرة بين الجمهور الإسلامي المحافظ الذي كان قرار تحويل الجامع إلى متحف مهيناً له وبالطبع لم يستشر بشأنه.
وبالفعل قوبل القرار بحماسة كبيرة في الرأي العام، ولم تجد أحزاب المعارضة مأخذاً عليه غير تسييسه واستغلاله من قبل السلطة.
من جهة أخرى لا يمكن النظر إلى موضوع آيا صوفيا بمعزل عن الطموحات الإمبراطورية لتركيا أردوغان. ففي الوقت الذي تم فيه استعادة أجواء فتح القسطنطينية، بواسطة هذا القرار، كان الجيش التركي منخرطاً في أكثر من ثلاث حروب خارج حدود الجمهورية الموروثة من أتاتورك: في سوريا والعراق وليبيا، إضافة إلى البحر المتوسط حيث تحرشت فيه البحرية التركية بسفينة حربية فرنسية!
على شاشة إحدى محطات التلفزيون الموالية سأل مقدم برنامج حواري ضيفه عما إذا كان على تركيا، بعد القرار الخاص بآيا صوفيا، أن تستعيد مؤسسة الخلافة أيضاً، فأجاب الضيف بكل ثقة: نعم، ولم لا؟ وأظن أن جامع آيا صوفيا هو مكان مناسب ليكون مقراً لمؤسسة الخلافة!
بكر صدقي
القدس العربي