أردوغان وما وراء لوزان

أردوغان وما وراء لوزان

لا توجد مصادفات في سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فليس محض مصادفة أن يكون موعد افتتاح الصلاة في مسجد آيا صوفيا غدا، الجمعة، 24 يوليو/ تموز. ففي مثل هذا اليوم من العام 1923 وقَّعت تركيا مع الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى معاهدة لوزان الثانية التي رسمت خريطة الجمهورية التركية التي تأسست على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وبإصداره مرسوما يبطل مرسوم مصطفى كمال (أتاتورك) الذي كان وراء قرار تحويل المسجد متحفا، يحاول أردوغان أن يوحي بأنه بصدد إصلاح ما أفسده أب الجمهورية منذ اتفاقية لوزان.

منذ حادثة الانقلاب الفاشل في يوليو/ تموز 2016، لم يعد أردوغان يفوّت فرصة للتذكير بأن عهد تركيا القديمة سينتهي بحلول 2023، وبأنه سيعبر بالبلاد إلى تركيا جديدة تحيي أمجاد آل عثمان، وأصبح يفصح أكثر عن انتقاده معاهدة لوزان التي سبق ووصفها بأنها وثيقة تأسيس تركيا الحديثة، ولم يعد يرى فيها اليوم إلا هزيمة ومساومة خاسرة. قبل أربع سنوات اغتنم الرئيس التركي فرصة لقاءاته الدورية مع المخاتير الأتراك، للحديث عن الخسارة التي ألحقتها هذه الاتفاقية ببلاده: “يريد بعضهم أن يقنعنا بأن معاهدة لوزان انتصار. أين الانتصار فيها؟ لقد خسرنا بعض جزرنا في بحر إيجه توجد على بعد صرخة، لمصلحة اليونان.. من جلسوا إلى الطاولة في لوزان لم يتمكّنوا من الدفاع عن حقوقنا”.

يحاول أردوغان إعادة كتابة التاريخ الذي سجّل أن أتاتورك عارض دخول الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى

تمسك أردوغان بهذه المظلومية جعله يطالب بتعديل الاتفاقية في خضم زيارة رسمية لليونان قام بها ف نهاية 2017: “هناك مسائل عالقة في المعاهدة (لوزان) وأمور غير مفهومة، وقعتها 11 دولة قبل 94 عاما، وليس اليونان وتركيا وحدهما، لذلك تتطلب تحديثا”. وبينما يطالب الرئيس بتعديل الاتفاقية، تزعم الآلة الدعائية لحزب العدالة والتنمية (الحاكم) أن “لوزان” تمنع تركيا من التنقيب عن النفط، وفرض الرسوم على السفن العابرة من مضيق البوسفور، وتدّعي أن صلاحية الاتفاقية ستنتهي بحلول 2023. ويُجمع كبار المؤرخين والخبراء على أن كل هذه المزاعم غير واردة في معاهدة لوزان، ولا تعدو أن تكون مجرد أساطير فبركها الحزب الحاكم لإضفاء الشرعية على سياساته التوسعية المبنية على ما يعرف بـ”الميثاق الملّي”، أو الميثاق الوطني.

يحاول أردوغان إعادة كتابة التاريخ الذي سجّل أن أتاتورك عارض بقوة دخول الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب ألمانيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية – المجرية ضد حلف بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، مصرًّا على ضرورة تحليها بالحياد. لم تجد حكمته السياسية آذانا صاغية في بلاط السلطان محمد الخامس الذي أدخل الإمبراطورية في حرب خاسرة، فاضطر آل عثمان للاعتراف بهزيمتهم، ووقعوا هدنة مودروس في العام 1918. وطبقاً لهذه الاتفاقية، استسلم العثمانيون، وقبلوا كل الشروط المهينة التي أملاها عليهم المنتصرون، بما فيها تسريح الجيش العثماني، واحتلال مضايق البوسفور والدردنيل، والانسحاب من إيران، والتخلي عن اليمن والعراق وسورية والحجاز، وكانت معظمها ترزح تحت الاحتلال الأوروبي. وبعد توقيع هدنة مودروس، سيطر الحلفاء على موانئ البحر الأسود، واقتسموا الأراضي التركية، فاحتل الفرنسيون مرسين وأضنه، وسقطت أنطاكية وكوشا داسي وقونية في يد الإيطاليين، واحتل اليونانيون القسم الغربي من الأناضول، بالإضافة إلى تراقيا.

استنكر القوميون، بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك)، هزيمة العثمانيين، وثاروا ضد الاحتلال الأجنبي لأراضي الإمبراطورية، ورسموا خريطة سمّوها بـ”الميثاق الملّي”، تلخصها مقولة أتاتورك “حدودُ أمّتِنا من جنوبِ خليجِ الإسكندرونة، من أنطاكية، وجنوب جسر جرابلس ومحطّة سكّة الحديد، وجنوب حلب ثم تسير جنوباً مع نهر الفرات حتى تضمّ دير الزور، ثم تتجّه شرقاً لتضمّ الموصل، وكركوك والسليمانية”. هكذا وضع القوميون الأتراك حلب والموصل وكردستان ضمن حدود الجمهورية التركية التي شرعوا في تأسيسها وإرساء مؤسساتها.

أثار إعلان الميثاق الملّي غضب الحلفاء، فزحفت قواتهم على إسطنبول، واحتلوا العاصمة العثمانية، وأكملوا احتلالهم ما تبقى من الأراضي العثمانية. وبينما كانت قوات أتاتورك تسعى إلى استرجاع ما خسرته الإمبراطورية، تمادى الخليفة محمد السادس في استسلامه، ووقع العثمانيون على معاهدة سيفر في عام 1920، وتنازلوا بموجبها عن كل الأراضي العثمانية التي تقطنها شعوب غير ناطقة باللغة التركية، بما فيها كامل الدول العربية، وقبلوا أيضا بتدويل إسطنبول ومضيق البوسفور، وتقسيم جزء كبير من الأناضول وتوزيعه بين اليونانيين والأكراد والأرمن والفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين.

الحقيقة التي يحاول “العثمانيون الجدد” صناعتها أنه لو قبِل أتاتورك معاهدة سيفر العثمانية لما تمتع أردوغان يوما بمنصب عمدة إسطنبول

الحقيقة التي يحاول “العثمانيون الجدد” صناعتها أنه لو قبِل أتاتورك معاهدة سيفر العثمانية لما تمتع أردوغان يوما بمنصب عمدة مدينة إسطنبول التي قبل العثمانيون بتدويلها آنذاك. تركيا موجودة اليوم لأن حكومة أتاتورك في أنقرة رفضت معاهدة سيفر، وسحبت اعترافها بالحكومة العثمانية في إسطنبول، وأعادت تنظيم ما تبقى من جيش الإمبراطورية. خاض جيش أتاتورك حرب الاستقلال أربع سنوات، ونجح في إخراج جيوش اليونان من الجبهة الغربية، وطرد قوات الأرمن من الجبهة الشرقية، وحرّر الجبهة الجنوبية من قبضة فرنسا، ثم حارب الملكيين والانفصاليين في عدة مدن تركية، واسترجع سيادة الأتراك على إسطنبول. وحولت هذه السلسلة من الانتصارات المدوّية القائد مصطفى كمال إلى بطل أسطوري يناديه الشعب بـ”أتاتورك” (أي أب الأتراك)، وهي التي أكسبت حكومته أيضا اعترافًا دوليًا خوّل لها الحق في الجلوس على طاولة مفاوضات السلام الجديدة في مدينة لوزان السويسرية، بصفتها الممثل الوحيد للأتراك بعد إلغاء السلطنة. تعثرت الجولات الأولى من المفاوضات، نظرا لتشبث الوفد التركي بخريطة “الميثاق الملّي”، لكن الحلفاء رفضوا التفاوض على هذا الأساس، واعتبروا الميثاق بمثابة إنكار لهزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. وخشية إشعال فتيل حرب جديدة لا طاقة لقواتها بها، قرّرت حكومة أتاتورك أن تكون واقعية، وتمسّكت بما حققته من مكاسب في حرب الاستقلال، فوقعت على معاهدة لوزان التي ضاعفت مساحة تركيا بالمقارنة مع معاهدة سيفر، وأذنت بميلاد جمهورية تركيا.

أهداف أردوغان لا تتعارض مع إرث أتاتورك، بل تسعى لتحقيق أكبر أحلامه: خريطة تركيا الكبرى

وبتوقيع حكومته على معاهدة لوزان، تخلى أتاتورك عن حدود الميثاق الملّي في رسم حدود الجمهورية التركية، لكن القادة الأتراك الذين توالوا على الحكم بعده لم يتخلوا عن حلمه، فقد توسعت تركيا مرتين منذ لوزان، حين احتلت لواء إسكندرونة عام 1939، ثم شمال قبرص في العام 1974. ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، عاد حلم الميثاق إلى الواجهة، وأفصح أردوغان في 13 سبتمبر/ أيلول 2016 في مؤتمر للقانون الدولي، عن أن “مشكلات تركيا على حدودها ناجمة عن تنازلها عن الميثاق الملّي في اتفاقية لوزان الثانية”. تعدّد تصريحات المسؤولين الأتراك التي تربط تدخل القوات التركية في سورية والعراق وحتى ليبيا بهذا الميثاق، يفسّر تحركات تركيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

لقد استغل أردوغان الفوضى التي جاء بها الغزو الأميركي للعراق في إطار رسم خريطة “الشرق الأوسط الجديد” ومطاردة “الإرهاب”، لمحاولة تحقيق ما لم يكن في وسع أتاتورك تحقيقه، فعلى عكس ما يظنه بعضهم، أهداف أردوغان لا تتعارض مع إرث أتاتورك، بل تسعى لتحقيق أكبر أحلامه: خريطة تركيا الكبرى. لكن نجاحه يتوقف على مدى قدرة الدول العربية على استعادة سيادتها على أراضيها في كل من سورية والعراق وليبيا، في ظل صراع أميركا وروسيا والصين وأوروبا وإيران ودول الخليج في المنطقة. وهذا ما يجعل ما تعيشه هذه الدول المحتلة اليوم مزيجا من ثورات تحرّر شعبية وحروب تحرير لا نهاية لها.

عائشة البصري

العربي الجديد