بينما لم يتخفف العالم بعدُ من وطأة وباء كورونا وتداعياته غير المحسوبة الأثر، تتصاعد يوماً بعد يوم أجواء، ما يصفه مراقبون، بـ”الحرب الباردة” بين واشنطن وبكين، التي بدت في أحدث مشاهدها من خلال “عراك إغلاق القنصليات”، وتبادل الاتهامات على أعلى مستوياتها، ما يزيد المخاوف بشأن أي سيناريوهات من التوتر قد يسلكها التصعيد المتبادل بين أكبر اقتصادين بالعالم، في وقت لا يستبعد فيه البعض وصولها إلى “المواجهة العسكرية”، لا سيما مع تعدد نقاط الاختلاف وسخونتها، واعتبار الولايات المتحدة أن إغلاق القنصلية الصينية في هيوستون “لم يأتِ ردّاً على ملف محدّد”.
وعلى مدار الأيام الأخيرة، أعيد التذكير بلغة التخاطب إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بعدما تبادلت واشنطن وبكين “تحرشاً دبلوماسيّاً” حسب توصيف صحيفة “واشنطن بوست”، إذ أمرت العملاق الاقتصادي الآسيوي بإغلاق القنصلية الأميركية في مدينة شينغدو الكبيرة جنوب غربي البلاد، ردّاً على إغلاق إحدى بعثاتها في الولايات المتحدة، وذلك على وقع وابل من التحذيرات من مسؤولين أميركيين كبار من “طغيان” الصين، واعتبار قنصليتها في هيوستن “وكراً للجواسيس”، لتدخل العلاقة بين البلدين “منحنى جديداً من المواجهة”، وصفته بكين عبر وزارة خارجيتها بأن “وضع لا ترغب الصين في رؤيته، والولايات المتحدة مسؤولة عن هذا كله”.
لماذا تصعيد “حرب القنصليات”؟
رغم أنه لم يكن المشهد الوحيد من التوتر القائم بين الولايات المتحدة والصين منذ قدوم الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب إلى السلطة أواخر 2016، فإن أحدث تلك الصور التي بدأت بعدما وجّهت وزارة العدل الأميركية الاتهام إلى مواطنين صينيين اثنين، بقرصنة مئات الشركات، والسعي لسرقة بحوث على لقاح ضد فيروس كورونا المستجد. ثم أعلنت توجيه الاتهام إلى أربعة باحثين صينيين، قالت إنهم كذبوا بشأن علاقاتهم بجيش التحرير الشعبي، وقد تجنّبت واحدة من هؤلاء الاعتقال بعد أن لجأت إلى القنصلية الصينية في سان فرانسيسكو، وهو ما تبعه قرار مفاجئ من واشنطن بإغلاق القنصلية الصينية في هيوستون.
وللصين خمس قنصليات بالولايات المتحدة، وسفارة في واشنطن. وفُتحت قنصلية هيوستن في ولاية تكساس 1979، العام الذي أقيمت فيه علاقات دبلوماسية بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية، حسب موقع القنصلية الإلكتروني.
وفي المقابل، وانطلاقاً من مبدأ “المعاملة بالمثل” أمرت الصين بإغلاق القنصلية الأميركية في مدينة شينغدو، وقالت وزارة الخارجية الصينية، في بيان، إن هذا القرار يشكّل “ردّاً شرعيّاً وضروريّاً على الإجراءات غير المنطقية للولايات المتحدة”.
وإلى جانب سفارتها في بكين، لدى الولايات المتحدة خمس قنصليات في مدن كانتون وشنغهاي وشينيانغ وشينغدو ووهان، وكذلك في هونغ كونغ. وتغطي قنصلية شينغدو التي فتحت في 1985، جنوب غرب الصين، خصوصاً منطقة التبت ذات الحكم الذاتي. ويعمل في هذه البعثة حسب موقعها الإلكتروني مئتا موظف، بينهم 150 موظفاً محليّاً.
وبين القرارين الدبلوماسيين، تبادل مسؤولون كبار في البلدين الاتهامات والتهديدات، فمن جانبه وصف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو القنصلية في هيوستن بأنها “وكر جواسيس صيني”، ومركز “لسرقة الملكية الفكرية”. وقال بومبيو إنّ الصين هي اليوم دولة “تزداد استبداداً في الداخل، وعدوانية في عدائها للحريّة بكلّ مكان آخر”. وأضاف في حديثه عن أيديولوجية الحزب الشيوعي أن “على العالم الحر أن ينتصر على الطغيان الجديد”، واصفاً هذا بأنه “مهمة عصرنا”.
كما قال رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي ماركو روبيو إن القنصلية الصينية في هيوستن تقع “في صلب شبكة واسعة للتجسس، ولعمليات نفوذ الحزب الشيوعي الصيني بالولايات المتحدة”. في المقابل، وصفت الصين تلك الاتهامات بـ”الافتراء الخبيث”.
أي سيناريوهات مرجحة للتوتر؟
وفق مراقبين فإن التصعيد الأخير والتوتر القائم بين البلدين منذ سنوات يأتي على خلفية ملفات عدة، تتمثل في التجارة وتعامل بكين مع وباء “كوفيد 19″، مروراً بسياسة الصين في هونغ كونغ وشينجيانغ وبحر الصين الجنوبي، وإقليم التبت ومسألة مسلمي الأويغور، فضلاً عن دور عملاق الاتصالات “هواوي” في تكنولوجيا الجيل الخامس.
وحسب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة رنمين الصينية تشي يينهونغ “من الصعب توقع المدى الذي سيبلغه تدهور العلاقات”، معتبراً أن الخصمين “شرعا في الانتقال إلى حرب باردة جديدة”، حسب ما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية.
في المقابل، تقول صحيفة “نيويورك تايمز”، إن قرب الانتخابات الأميركية (مقررة في الثالث من نوفمبر “تشرين الثاني” المقبل) يدفع القضية الصينية أن تحتل مكانة مهمة في صلب الصراع الانتخابي بين ترمب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن، إذ يركز الرئيس الأميركي، على اعتبار أن مرشح الحزب الديمقراطي بايدن ضعيف في مواجهة بكين. وهو مشهدٌ شبيه بما حدث في انتخابات 2016، حين تعهّد المرشح الجمهوري حينها ترمب، خفض العجز التجاري مع الصين، ما شكّل واحداً من أسباب فوزه.
وفي كتابه الذي صدر أخيراً بعنوان “الغرفة التي شهدت الأحداث”، ذكر جون بولتون المستشار السابق للأمن القومي الأميركي، أن “ترمب كان يبحث عن قوة دفع انتخابية تأتي من الصين عبر زيادة مشترياتها من المنتجات الزراعية الأميركية، بغية إرضاء قاعدته الانتخابية الريفية”.
وتوصّلت واشنطن وبكين أواخر العام الماضي ديسمبر (كانون الأول) لاتفاق تجاري على عدة مراحل، دفع الرئيس الأميركي إلى الثناء أكثر من مرة على نظيره الصيني شي جين بينغ، إلا أن أزمة وباء كورونا الذي ظهر للمرة الأولى في مدينة ووهان الصينية أواخر العام الماضي ألقى الضوء على أزمة أكثر عمقاً بين الطرفين. فبعدما “شكر” ترمب بحرارة نهاية يناير (كانون الثاني) جين بينغ “لجهوده” في “احتواء” الفيروس، بدّل الرئيس الأميركي خطابه جذرياً، ليحمّل الصين مسؤولية الأزمة الصحية والاقتصادية العالمية، وتبنى على الإثر استراتيجية المواجهة المباشرة مع العملاق الاقتصادي الآسيوي.
وكتب أستاذ الشؤون الدولية في جامعة هارفرد، ستيفان والت، أن “أكبر قوتين اقتصاديتين عالميتين دخلتا في تنافس أمني طويل الأمد، تفاقمه رؤى استراتيجية متضاربة”، معتبراً أن “الأمر يشبه الحرب الباردة في بعض أوجهه”. وحسب والت فإن “السبب الرئيس خلف التدهور الحالي، يتوجّب البحث عنه في تنامي الطموحات الدولية للصين، خصوصاً لناحية رغبتها في الهيمنة بآسيا”.
هل الخيار العسكري وارد؟
مع تعدد نقاط الخلاف “الاستراتيجية” بين بكين وواشنطن، لا يستبعد مراقبون “احتماليات انفلات الأوضاع والدخول في صراع مسلح، لا سيما مع تضارب المصالح الجيوسياسية بين البلدين في القارة الآسيوية”.
وتقول مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، “لم يهدأ اشتعال التنافس العسكري بين البلدين طوال السنوات الأخيرة، إذ عملت الصين مستخدمة توسّعها الاقتصادي المستمر منذ عقود لبناء ترسانةٍ عسكرية هائلة، أرهبت بها جيرانها من الدول، وتدخلت في حرية الملاحة بالقرب من شواطئها، وكذلك تسببت في زيادة مخاطر عمل الجيش الأميركي في آسيا. ما ولَّد اعتقاداً لدى عديد من المسؤولين الأميركيين بنية بكين إضعاف التحالفات الأميركية، وطرد قواعدها وقواتها من قارة آسيا”.
حسب المجلة الأميركية، فإنّ وباء كورونا وما أحدثه من تداعيات حول العالم صعّد حدة التنافس العسكري الصيني الأميركي، لا سيما مع التحركات العسكرية الصينية في بحر الصين الجنوبي، وهو ما يهدد حلفاء واشنطن الآسيويين، وينذر بخطورة الأوضاع.
وفي آخر تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” الصادر في الـ27 من أبريل (نيسان) 2020، المعنيّ برصد سباق التسليح في العالم، قال إن هناك سباقاً عالميّاً محموماً غير مسبوق نحو التسلّح والإنفاق العسكري. مشيراً إلى أن الإنفاق العسكري الأميركي زاد 5.3 في المئة عام 2019 إلى 732 مليار دولار مقارنة بعام 2018، وهو ما يمثل 38 في المئة من مجموع الإنفاق العالمي. تتبعها الصين بـ261 مليار دولار، بزيادة قدرها 5.1 في المئة على أساس سنوي. وذكر نان تيان، الباحث في المعهد، أن الصين “أعلنت بشكل سعيها للتنافس مع الولايات المتحدة كقوة عسكرية عظمى”.
وفي أبريل الماضي أيضاً، اقترحت قيادة منطقة المحيط الهادئ الهندية الأميركية للكونغرس الأميركي قائمة بقيمة 20 مليار دولار من الاستثمارات الدفاعية، لتعزيز القدرات الأميركية، وطمأنة الحلفاء القلقين من التصعيد الصيني المتزايد.
في الاتجاه ذاته، نقلت وكالة رويتزر في مايو (أيار) الماضي، ما قالت إنه تقديرات صينية بشأن حرب باردة جديدة أو مواجهة عسكرية في المستقبل على وقع التوترات الأمنية التي تواجه العملاق الصيني مع الولايات المتحدة، وموجة العداء غير المسبوقة اتجاه العملاق الآسيوي في أعقاب جائحة كورونا.
وحسب “رويترز”، جاء في التقرير الذي أعدته وزارة أمن الدولة الصينية، في أبريل 2020 أن “المشاعر العالمية المناهضة الصين بسبب كورونا وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ حملة ميدان تيانانمين عام 1989”. ونصح السلطات بالاستعداد “لمواجهة عسكريّة بين القوتين العالميتين في أسوأ سيناريو”.
وتعتقد سلطات بكين بأن الولايات المتحدة في عهد ترمب مصممة أكثر من أي وقت مضى، على احتواء صعود القوة الصينية بكل الوسائل. إذ أوضح التقرير الصيني أن واشنطن تنظر إلى صعود بكين المتنامي، باعتباره تهديداً لأمنها القومي، وتحدياً للديمقراطيات الغربية، وأن واشنطن تسعى لإضعاف مكانة الحزب الشيوعي الحاكم من خلال تقويض ثقة الصينيين به.
وحسب تدوينة على موقع “تويتر” لـ”هو شيغين”، رئيس تحرير صحيفة “غلوبال تايمز” الشعبية في الصين، فإن “خطر المواجهة العسكرية بين الصين والولايات المتحدة يتصاعد رغم أن أياً من الجانبين لا يريد الحرب”.
في المقابل، قال الكاتب الأميركي ديفيد فيكلنغ لوكالة بلومبيرغ الأميركية، إن “إلقاء نظرة على العلاقات المتوترة للصين مع دول أخرى، يظهر أن بكين تعتمد على الواقعية السياسية أكثر مما تركّز على الذات”، مستبعداً بذلك خيار المواجهة العسكرية.
أحمد عبدالحكيم
اندبندت عربي