لا تكاد العلاقات الأميركية الصينية تهدأ إلا وتشتعل مجدّدًا، هذا هو الحال منذ سنوات، لكن “الكم” وحده ليس المعيار، فوراء الدخان المتصاعد أخيرًا حريق يبدو أكبر حجمًا، وهذا الحريق، وهذا هو الأهم، مختلف نوعيًا، وقد يكون مقدمة لصدام واسع (ساخن أو بارد). الحديث الأميركي، وبالتوازي معه الحديث البريطاني، عن “القيم” التي تهدّدها الصين، أو تنتهكها بالفعل، وراءه غالبًا مشكلة بنيوية قد لا تفلح معها مواءمات السياسة ولغة الحلول الوسط.
وقد أصبح كشف الحساب، خلال فترة قصيرة، متضخمًا، فبعد مرور وقت قليل على الإعلان عن اتفاقٍ على حلول للمشكلات الاقتصادية بين البلدين، وصفه الرئيس الأميركي، ترامب، بـ “التاريخي”، بعد مبارزة عنيفة بسيف العقوبات، يتضمن كشف الحساب: العلاقات الاقتصادية، ومشكلة بحر الصين الجنوبي، ومدى مسؤولية الصين عن تفشي كورونا عالميًا، ومشكلة الوضع السياسي لهونغ كونغ، والاتهامات المزمنة بسرقة أسرار تكنولوجية أميركية، بالإضافة إلى انتقادات أميركية متكررة لوضع مسلمي الصين…
تتجه أصابع الاتهام الأميركية والأوروبية نحو بكين “الشرسة” في سطوها على التكنولوجيا الغربية: “نار بروميثيوس المقدّسة الجديدة”
السياسي الياباني المشاكس، شنتارو إيشهارا، في كتابه، الذي أحدث صدوره ضجّة كبيرة في تسعينيات القرن الماضي “اليابان لم تقل لا”، حكى كيف “سجد زعماء الصين لسحر التكنولوجيا الأميركية”، في زيارة ريتشارد نيكسون التاريخية الصين عام 1972. واليوم، تتجه أصابع الاتهام الأميركية والأوروبية نحو بكين “الشرسة” في سطوها على التكنولوجيا الغربية: “نار بروميثيوس المقدّسة الجديدة”!
البروفيسور بول براكين، الرجل الذي كلفته الإدارة الأميركية بـ “إعادة هيكلة الجيش الأميركي” لمرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، أصدر في 1999 كتابه المهم: “نار في الشرق”. وفي كتابه أكد، في توقيت مبكر جدًا، واعتمادًا على معطياتٍ لا تتوفر إلا لمن تفتح له “خزانة أسرار” القوة الكبرى في العالم، أنّ الصين ستشكل مشكلة كبرى للغرب. ومن الحقائق المثيرة التي كشف عنها أن “الضربة النووية الاستباقية”، في حال نشوب صراع نووي، كانت مصمّمةً على أساس إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا “الروس الأوروبيين”، ليقين الأميركيين أن الاتحاد السوفييتي يخفي “بنية قومية روسية” تحت القشرة الأيديولوجية الماركسية! وأن سقوط ضحايا من “روسيا الآسيوية” (أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي الأخرى) سيكون أقل تأثيرًا في رد الفعل الروسي. وينطبق الأمر نفسه، جزئيًا، على الصين. والنفاذ إلى البنية الأعمق لأي نظام سياسي شرط موضوعي للتعامل معه بكفاءة، ومسارات السياسة الصينية في العالم العربي لم تحظ حتى الآن باهتمامٍ كافٍ من الأكاديميين. وفي غمرة عداء متجذر لأميركا في الثقافة السائدة، لا يكاد يكون هناك خطاب يستكشف صورة الصين بشكل منهجي، ربما باستثناء أكوام من الأدبيات تبشّر بـ “المعجزة الصينية”.
والحديث الأميركي البريطاني عن خطر الصين على القيم الغربية، والإجراءات القاسية التي تم اتخاذها أخيرًا في شأن التجسس التكنولوجي الصيني، كلاهما من الملامح الرئيسة لفترة ذروة “الحرب الباردة”، فقد أنشأ الحلفاء الغربيون “ستارًا حديديًا مضادًا” عُرف اختصارًا باسم “COCOM” منع تدفّق التكنولوجيات العسكرية والتكنولوجيات “مزدوجة الاستخدام” إلى الجانب الآخر من “الستار الحديدي” الشيوعي، وأسهم هذا بقوة في انهيار الاتحاد السوفييتي. وبالطريقة نفسها التي تم بها استخدام الدين في الحرب الباردة في مواجهة الماركسية (بالتحالف مع الفاتيكان)، تعتمد واشنطن ولندن خطابًا سياسيًا يدين، بشكل متكرّر، ممارسات الصين القمعية ضد مسلميها. وتؤكد هذه السمات جميعًا أن التناقض بين الصين والثنائي الأنغلوساكسوني مرشّح للتصاعد. وكما أسهم خطاب الحرب الباردة في نتائج، لم تكن مستهدفة، في مقدمتها تكريس حضور الدين في الشأن العام في بقاع مختلفة من العالم، سيسهم الصراع الجديد، على الأرجح، في نتائج مشابهة.
وفي حال نجحت الصين في التمدّد في المنطقة، سيعزّز تمدّدها “تحالف خصوم الديمقراطية” الذي تأسس ردًا على “ثورات الربيع العربي”، وستمتلئ العلاقات السياسية بمزيد من المفارقات. وليست كل المفارقات مما يستدعي الدهشة.
ممدوح الشيخ
العربي الجديد