عثرنا، في أثناء التفتيش في مطموراتنا التاريخية، على النص المثير التالي: “في اليوم الثامن والعشرين من شهر شباط [فبراير] عام 1941 اجتمع السادة مصطفى وعبد العزيز وأحمد ورضوان وفرهود وجاسم وفارس، وهذه أسماء مستعارة لكرامٍ ليس بوسعي الآن أن أذكر أسماءَهم، ولهم مكانة سامية بعين أرباب القوة الإجرائية والسياسية في العراق وفلسطين وسورية، ولهم ارتباط وثيق بباقي الوطنيين من أحرار العرب في تلك الأقطار، والذين يرتبط معهم [طه] الهاشمي بعهد وميثاق. أما العمدة وموضع الثقة فكان مصطفى، وقد ارتبط الجيش [العراقي] به منذ بضع سنين، وهو الذي كفل عبد العزيز وربط به الجيش. وكان قَسَمٌ عظيم تلاه كل واحد من المجتمعين جهرًا، يعاهد الله على أن يجعل من مضمون القَسَم نبراسًا يسير على هديه في كل تصرفاته، وأن يعمل بكل ما أوتي من قوة لإنقاذ البلاد العربية، وأن ينبذ الخلافات الناشئة عن الأنانية والحزازات الشخصية، وأن يكون مصطفى ناظمًا لنا ورئيسًا مطاعًا” (انظر: صلاح الدين الصبّاغ، فرسان العروبة في العراق، بغداد: منشورات الشباب العربي، 1956، ص 218).
أُسست “اللجنة العربية السباعية” سرًا في 28/ 2/ 1941، من: أمين الحسيني، ورشيد عالي الكيلاني، ويونس السبعاوي، وناجي شوكت، وصلاح الدين الصبّاغ، وفهمي سعيد، ومحمود سلمان
مَن هو مصطفى هذا الذي ارتبط الجيش العراقي به، في الفترة التي سبقت انتفاضة مايس 1941 (1/4/1941)، والذي كان ناظمًا ورئيسًا لمجموعة عسكرية – سياسية خطّطت وأدارت تلك الانتفاضة؟ بعد البحث والتفتيش في بطون الكتب والوثائق تمكنّا من العثور على الجواب. فالمذكور إنما هو الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، وهو الذي اختار اسم “مصطفى” اسمًا حركيًا له في العراق، في تلك الحقبة المضطرمة بالحوادث الكبرى. وقد نشر ناجي شوكت رسالة إيضاحية في هذا الشأن، جوابًا عن رسالة كان أرسلها إليه الحاج أمين الحسيني، فأعرب ما استعجم في هذه المسألة (راجع: ناجي شوكت، سيرة وذكريات ثمانين عامًا: 1894 – 1974، بغداد: مطبعة سلمان الأعظمي، 1974، ص 540). وكانت الباحثة بيان نويهض الحوت قد نشرت رسالة المفتي إلى ناجي شوكت، ورد الأخير عليها، علاوة على نص صلاح الدين الصبّاغ، في كتابها المهم “القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين: 1917 – 1948. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية – الطبعة الثالثة، 1986، ص 777 و778”. لكن ركام الوثائق أعاق، ولو موقتًا، إمكانية ربط النصوص الثلاثة بعضها ببعض، واستخلاص الحقائق منها. وناجي شوكت الذي يحلو للعروبيين أن يكتبوا اسمه بالتاء المربوطة، لا بالتاء المبسوطة، على غرار محمد عزة دروزة ومحمد بهجة الأثري، ترسيخًا لعروبة الاسم ورفضًا للرسم التركي في كتابة الأسماء، مثل عصمت وبهجت ورفعت وطلعت وعزت وشوكت وألفت ونعمت .. إلخ، هو وزير العدل في حكومة رشيد عالي الكيلاني في العراق في سنة 1940، ورئيس وزراء سابق. ولأنه موضع ثقته، كلّفه الحاج أمين الحسيني الاتصال سرًا بالألمان في تركيا، والتفاهم مع سفيرهم فون بابن على مستقبل البلاد العربية، بعد انتصارهم (الذي لم يحصل) في الحرب العالمية الثانية. تقول رسالة الحاج أمين الحسيني إلى ناجي شوكت: “حضرة صاحب الفخامة الأخ ناجي بك شوكت المحترم، لأسباب تتعلق بالقضية العربية، أرجو منكم بما عرفتم به من الصراحة والصدق في جميع أدوار حياتكم أن تتفضلوا بإجابتي على ما يلي:
هل تذكرون في اجتماعنا المنعقد في منزلي في شارع الزهاوي ببغداد في شباط [فبراير] 1941 أنه حضر ذلك الاجتماع عدا حضرتكم كل من السادة رشيد عالي الكيلاني وصلاح الدين الصباغ والمرحومين يونس السبعاوي وفهمي سعيد ومحمود سلمان وأنا؟ وهل تتذكّرون أنني عرضت على رشيد بك نص القسم الشريف، وأقسم على الانخراط في هذه التشكيلات والإخلاص لها ولبرنامجها وللمنتسبين إليها مدى الحياة؟ كما أقسم الجميع نفس القسم وأنه دفع للحزب في ذلك الاجتماع مبلغ مائة دينار عراقي سلمه لي، وأن الاجتماعات لهذه التشكيلات الحزبية توالت بعد ذلك. وأن كل الشؤون الهامة المتعلقة بالحزب بما فيه شؤون الحكومة العراقية كانت تقرر في هذه الاجتماعات، وأنه تقرّر أن يتخذ كل منا اسمًا غير اسمه الحقيقي ليعرف به في التشكيلات السرية، وقد اختار كل منا اسم جد من أجداده، فكان اسم كل واحد كما يلي: ناجي شوكت (أحمد) وصلاح الدين الصباغ (رضوان) ورشيد العالي الكيلاني (عبد العزيز) ويونس السبعاوي (فرهود) وفهمي سعيد (نجم) ومحمود سلمان (فارس) واسمي أنا (مصطفى). وهل تذكرون أن كتلة الجيش العراقي وكذلك الشبيبة كانوا مرتبطين بهذه التشكيلات، ومن الذي ربط كتلة الجيش بهذه الهيئة؟
وتفضلوا بقبول فائق التحية والاحترام/ 28 أيلول [سبتمبر] 1942/ الإمضاء – محمد أمين الحسيني.
كان أمين الحسيني يعرف العقداء الأربعة، فهمي سعيد، وكامل شبيب، وصلاح الصباغ، ومحمود سلمان، منذ 1915 حين التحق بكلية ضباط الاحتياط في تركيا
أما جواب ناجي شوكت على الرسالة فكان التالي:
حضرة صاحب السماحة الأخ أمين الحسيني المحترم
جواب كتاب سماحتكم المؤرخ 28 أيلول [سبتمبر] 1942، إنني أتذكّر جميع ما جاء في ذلك الكتاب على النحو الذي ذكر فيه. وقد حضرت الاجتماع الذي عقد في منزلكم في شارع الزهاوي ببغداد في شهر شباط [فبراير] 1941، والذي حضره أيضًا كل من السادة رشيد عالي الكيلاني ومحمود سلمان، وأتذكّر جيداً أنكم عرضتم فيه نص القسم المقرّر في تشكيلاتنا الحزبية السرية مع رشيد عالي بك الكيلاني، فوضع يده على المصحف الشريف وأقسم على الانخراط في هذه التشكيلات والإخلاص لها ولبرنامجها وللمنتسبين إليها مدى الحياة. كما أنني وأنتم جميعاً أقسمنا عين القسم، وأنه دفع للحزب في ذلك الاجتماع مبلغ مائة دينار عراقي سلمه إليكم، وأن الاجتماعات لهذه التشكيلات الحزبية توالت بعد ذلك. وأن كل الشؤون المتعلقة بالحزب بما فيه شؤون الحكومة العراقية كانت تقرر في هذه الاجتماعات، وأنه تقرر أن يتخذ كل منا اسمًا غير اسمه الحقيقي، فكان اسم كل واحد كما يلي: أمين الحسيني (مصطفى) ورشيد عالي الكيلاني (عبد العزيز) وصلاح الدين الصباغ (رضوان) ويونس السبعاوي (فرهود) وفهمي سعيد (نجم) ومحمود سلمان (فارس) واسمي أنا (أحمد). وأتذكر أن كتلة الجيش العراقي وكذلك تشكيلات الشبيبة كانت مرتبطة بهذه التشكيلات، وأنكم كنتم العامل الأول في ربط كتلة الجيش بهذه الهيئة.
وتفضلوا يا صاحب السماحة بقبول تحياتي واحتراماتي الخالصة.
30 أيلول [سبتمبر] سنة 1942 الإمضاء – ناجي شوكت.
حكاية المجموعة السرية
أُسست هذه المجموعة سرًا في 28/2/1941، ودُعيت باسم “اللجنة العربية السباعية”، لأن قيادتها كانت تتألّف من سبعة أشخاص هم: أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني ويونس السبعاوي وناجي شوكت وصلاح الدين الصبّاغ وفهمي سعيد ومحمود سلمان. وهذه المجموعة السرية ائتلاف بين أربعة تشكيلات سياسية وعسكرية: مجموعة رشيد عالي الكيلاني، ومجموعة الحاج أمين الحسيني، ومجموعة الحركة العربية السرية التي ظل قسطنطين زريق يقودها منذ تأسيسها حتى عام 1939 (خلفه في قيادتها كاظم الصلح ودرويش المقدادي ويونس السبعاوي)، ومجموعة العقداء الأربعة: فهمي سعيد وكامل شبيب وصلاح الصباغ ومحمود سلمان (راجع: شفيق جحا، الحركة العربية السرية: جماعة الكتاب الأحمر، بيروت دار الفرات، 2004، ص 304). وكان الحاج أمين الحسيني يعرف العقداء الأربعة منذ العام 1915 حين التحق بكلية ضباط الاحتياط في تركيا عندما استُدعي إلى الخدمة الإلزامية فور إعلان تركيا انحيازها إلى ألمانيا وإعلانها الحرب على الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وعُين بعد إنهائه دورة الضباط الاحتياط (9 شهور) في الفرقة 46 المرابطة في أزمير.
نشرت الباحثة بيان نويهض الحوت رسالة الحسيني إلى ناجي شوكت، ورد الأخير عليها، في كتابها المهم “القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين: 1917 – 1948
وكان من بين ضباط الفرقة 46 كل من محمود سلمان وصلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد، بل إن الحاج أمين ومحمود سلمان كانا في فوج واحد. ويقول الحاج أمين عن هؤلاء الضباط وعن الضباط القوميين العراقيين: “جمعتني مع أكثرهم صداقات قديمة متّنها الزمن، فقد كنا زملاء سلاح في الفرقة 46 [العثمانية]، وقد كنتُ مع العقيد محمود سلمان في نفس الكتيبة، ولقد وجدتُ عندما التقيت بهم عام 1919 أن الأفكار التي ألّفتْ بيننا قد انغرست أعمق مع الزمن” (انظر: زهير المارديني، ألف يوم مع الحاج أمين، بيروت: دار العرفان، 1977). وكان هؤلاء الضباط الأربعة، أو ما أُطلق عليه “المربع الذهبي”، يقودون “التشكيل القومي في العراق” الذي أسّسه الضابطان صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد في عام 1927، ثم انضم إليه بالتدريج نحو 120 ضابطًا. وفهمي سعيد هو الذي خطط عملية اغتيال بكر صدقي في مطار الموصل في 11/8/1937 بينما كان في طريقه إلى تركيا. وبكر صدقي هو قائد أول انقلاب عسكري في تاريخ الانقلابات العسكرية العربية ضد ياسين الهاشمي في 29/10/1936 (انظر: نَضِر علي أمين الشريف، محمد فهمي سعيد، بغداد، بيت الحكمة، 2002، ص 173 و180، وكذلك شفيق جحا، الحركة العربية السرية، مصدر سابق، ص 241). وفي تلك الفترة التي وصل فيها الحاج أمين الحسيني إلى بغداد، كان فهمي سعيد وكامل شبيب وصلاح الصباغ يقودون فرق المشاة في الجيش العراقي، ويقود محمود سلمان سلاح الجو. والمعروف أن صلاح الدين الصباغ (أصل عائلته من مدينة صيدا) كان ضابطًا في الجيش السوري إبّان عهد الملك فيصل، وانتقل معه من دمشق إلى بغداد بعد معركة ميسلون في يوليو/ تموز 1920.
ماذا كان يفعل الحاج أمين في بغداد؟
في 26/9/1937 كمن فلسطينيون قسّاميون لحاكم الجليل البريطاني الجنرال لويس أندروز في الناصرة واغتالوه بالرصاص. وعلى الفور، عمدت القوات البريطانية إلى حل اللجان القومية الفلسطينية، واعتقال كثير من أعضائها، وأرسلتهم منفيين إلى سيشل، أمثال حسين فخري الخالدي وأحمد حلمي عبد الباقي ويعقوب الغصين وفؤاد سابا ورشيد الحاج ابراهيم، وأَلغت رئاسة الحاج أمين الحسيني للمجلس الإسلامي الأعلى. وكان واضحًا أن دور الحاج أمين في الاعتقال أو النفي قد اقترب. وفي 13/10/1937 أقدم مفتي فلسطين على مغامرة جريئة، تضاف إلى سجل مخاطراته الكثيرة، فتدلى بالحبل من الطبقة الثالثة في منزله المحاصر، وتسلل من القدس إلى يافا، ومنها بالزورق إلى لبنان. وفور وصوله إلى بيروت، طلب من المسيو كولومباني مدير الأمن العام الفرنسي أن يُسمح له بالسفر إلى دمشق للإقامة فيها؛ وكان معظم قادة الحركة الوطنية الفلسطينية ومعظم القادة العسكريين لثورة 1936 موجودين آنذاك في دمشق. ورفضت السلطات الفرنسية سفره إلى دمشق، كما رفضت إقامته في بيروت وطرابلس. وبعد مداولاتٍ ومفاوضات، وافقت سلطات الانتداب الفرنسي على إقامته في قرية زوق مكايل القريبة من بلدة جونية في ساحل منطقة كسروان المارونية. وفي تلك الأثناء، كانت الثورة الفلسطينية الكبرى تتجدّد في طورها الثاني الذي بدأ في 15/10/1937، وكانت معظم فاعليات الثورة تدار من دمشق وبالتنسيق مع الحاج أمين في قرية الزوق.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، شرعت بريطانيا في التشديد على سلطة الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان، لمنع الفلسطينيين من الاستمرار في نشاطهم السياسي والعسكري
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، شرعت بريطانيا في التشديد على سلطة الانتداب الفرنسي في سورية ولبنان، لمنع الفلسطينيين من الاستمرار في نشاطهم السياسي والعسكري، انطلاقاً من دمشق، فبادر الفرنسيون إلى اعتقال محمد عزة دروزة في دمشق، وراحت بريطانيا تلح على تسليم الحاج أمين لإرساله منفيًا إلى موريشوس. وعند ذلك، شدد الفرنسيون الحراسة على منزل مفتي فلسطين في زوق مكايل. ولمّا علم الحاج أمين أن فرنسا أعدت سجنًا آخر في تدمر لقادة الثورة الفلسطينية العسكريين، وسجنًا آخر في بكفيا للقادة السياسيين، راح يفكّر في سبيل ما للخروج من ذلك الشَرَك. وفي 13/10/1939، أي بعد سنتين بكمالهما وتمامهما منذ مغادرته القدس، وصل خفية إلى دمشق، حيث لم يكن هناك حدود بين لبنان وسورية. ومن دمشق سافر بالصحراء إلى بغداد التي وصل إليها في 15/10/1939 (راجع: عبد الكريم العمر، مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني، دمشق: دار الأهالي، 1999). وفور وصوله، تحلق حوله عدد من أعلام النضال القومي، أمثال عز الدين الشوا وممدوح السخن وواصف كمال ودرويش المقدادي (من فلسطين)، ومحمد علي حمادة (من لبنان)، وصدّيق شنشل وموسى الشابندر ومحمد حسن سلمان ويونس السبعاوي (من العراق)، وهؤلاء كانوا أعضاء سريين في “الحركة العربية” السرية التي أسسها في بيروت سنة 1935 الدكتور قسطنطين زريق (من سورية)، ومعه فؤاد مفرج وشفيق جحا وآخرون. و”الحركة العربية” كانت محصلة لاندماج مجموعة قسطنطين زريق (جماعة الكتاب الأحمر) و”جمعية التحرير العربية” التي أسسها في سنة 1929 فريد زين الدين (سوري من أصل لبناني) ودرويش المقدادي (فلسطيني) ونافع شلبي (سوري) وكاظم الصلح وتقي الدين الصلح (من لبنان)، وانضمت إليها مجموعة المناضلين الفلسطينيين (واصف كمال وممدوح السخن وفريد يعيش) بعد اتصالهم بفريد زين الدين في نابلس. وجرّاء فشل الثورة الفلسطينية الكبرى واندلاع الحرب العالمية الثانية والتضييق الفرنسي المتزايد، رغب قسطنطين زريق في الاستقالة من قيادة الحركة العربية السرية، فتولى كاظم الصلح، ثم درويش المقدادي رئاسة الحركة، ونُقل مقر الحركة إلى بغداد. وهكذا تجمع في بغداد آنذاك عدد كبير من أعلام الحركة القومية العربية الذين التفوا حول الحاج أمين الحسيني، وسلّموه زمام القيادة وبايعوه بالزعامة، ووضعوا معه خطة لتخليص دول المشرق العربي من الاستعمارين الانكليزي والفرنسي، وتوحيدها وتحرير فلسطين.
يقول فوزي القاوقجي في مذكراته: ” لما وصل [المفتي] إلى بغداد التف حوله القادة من الضباط ولازموه، وأُحيط بكثير من الترحاب والاحترام من جميع الأوساط العراقية
يقول فوزي القاوقجي في مذكراته: ” لما وصل [المفتي] إلى بغداد التف حوله القادة من الضباط ولازموه، وأُحيط بكثير من الترحاب والاحترام من جميع الأوساط العراقية، حتى أصبح مسكنه مقرًا للقواد الأربعة والضباط والوجهاء والعشائر، وارتفع بذلك إلى مستوى الزعماء الفاتحين، حتى أنه عندما حصل خلاف بين القبائل العراقية انتُدب المفتي لحل [المسألة] ولتسويتها. وهذه الناحية كانت نقطة ارتكاز للانطلاق إلى هدفه في زعامة العراق (…). ومن هنا فاتح المفتي صلاح الدين الصباغ في موضوع أن يكون العراق مركز الزعامة العربية لتحقيق وحدة عربية شاملة (…)، وتكون أول مرحلة إزالة الوصي، وأن يأخذ المفتي مكانه لتنفيذ مشروع الوحدة (…). وفي يوم من الأيام حضر لعندي صلاح الدين [الصباغ] وفهمي سعيد، وأطلعاني على عزمهما إقالة الوصي وطرده، وأنهم ذاهبون الآن للتنفيذ، فبُهت ولم أصدق، وقلت لصلاح الدين: إنك تلعب بالنار، وإن إقدامك على هذا الأمر سيشق العراق، وستحدث فيه ثورات لا تُطفأ نارها. [وأخبرني صلاح] إن سماحته متفاهم مع زعماء سورية على إنشاء اتحاد من العراق وسورية ينطلق منها إلى إنقاذ فلسطين” (فوزي القاوقجي، مذكرات فوزي القاوقجي، تقديم وإعداد خيرية قاسمية، دار النمير، 1995، ص 627).
“مصطفى” والعمل السري
يروي الحاج أمين الحسيني، بُعيد وصوله إلى بغداد، ما يلي: “عُقد اجتماع على جانب عظيم من الأهمية في منزل العقيد محمود سلمان قائد الطيران حضرتُه مع زميلين من زملاء الفرقة 46 هما العقيدان فهمي سعيد وصلاح الدين الصباغ. وبعد مناقشة طويلة للوضع اتخذوا القرارات التالية:
1- تطبيق المعاهدة العراقية – الانكليزية بدقة، والمحافظة على الحياد بين المتحاربين [دول المحور والحلفاء].
2- تحاشي الاشتراك في الحرب بأي ثمن.
3- […..].
4- إذا أعلنت اليابان والاتحاد السوفياتي الحرب على انكلترا، واستمرت هذه على موقفها العدائي للعرب، اضطر العرب جميعًا لحمل السلاح ضدها.
5- إذا حانت هذه الفرصة، تُعلن الثورة أولاً في فلسطين كما أُعلنت سنة 1916 في مكة والحجاز، فتكون بداية انطلاق ثورة عربية كبرى تحرر فلسطين أولًا، والبلدان العربية الأخرى من الاحتلال الانكليزي والصهيونية” (أنظر: زهير المارديني، ألف يوم مع الحاج أمين، مصدر سابق؛ وعبد الكريم العمر، مذكرات الحاج محمد أمين الحسيني، مصدر سابق، ص 58).
لم تكن “ثورة مايس 1941” بداية شوطٍ جديد من النضال في سبيل حرية العراق واستقلاله، بل نهاية حقبة طويلة ممتدة طوتها الحرب العالمية الثانية ونتائجها الكارثية، خصوصًا في فلسطين
كان الصراع محتدمًا في الفترة التي هبط فيها الحاج أمين العراق بين الموالين لبريطانيا، أمثال الأمير عبد الإله ونوري السعيد ورستم حيدر وصالح جبر وشاكر الوادي وتوفيق السويدي وجميل المدفعي، وبين المعادين لها أمثال رشيد عالي الكيلاني وناجي السويدي وناجي شوكت، علاوة على الضباط القوميين. ويروي فوزي القاوقجي، في مذكراته، أن المفتي الحاج أمين الحسيني أقنع الضباط الأربعة الذين كانوا يكرهون الوصي عبد الإله، ولا يثقون به، ويشكّون في إخلاصه للعراق، بإطاحة الوصي، على أن يتسلم هو، أي المفتي، مركز الوصي لإقامة دولة عراقية تكون قاعدة للدولة العربية الكبرى (أنظر: مذكرات فوزي القاوقجي، مصدر سبق ذكره، ص 626). وفي تلك الأجواء، انفرد نوري السعيد بتصريح أعلن فيه أن العراق سيقطع علاقته بألمانيا، ويعلن الحرب عليها إذا أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا رسميًا. ولما اندلعت الحرب بادر نوري السعيد إلى قطع علاقة العراق بألمانيا، وسلّم الرعايا الألمان في العراق إلى البريطانيين الذين استاقوهم إلى الهند. وعند هذه النقطة انفجر الصراع بين الموالين لبريطانيا والمناوئين لسياستها، ثم تطورت الأمور بسرعة حتى وصلت في 21/2/1940 إلى قيام العقداء الأربعة (صلاح الدين الصباغ وكامل شبيب ومحمود سلمان وفهمي سعيد – وهم أركان الحاج أمين) بالسيطرة على مقر قيادة الجيش وثكناته ومراكزه، وأجبروا نوري السعيد على الاستقالة ليتولى رشيد عالي الكيلاني رئاسة الحكومة ثم يستقيل بعد فترة، فيتولى الحكومة بعده طه الهاشمي. ثم صدرت إرادة ملكية في 26/3/1941 تقضي بنقل العقيد كامل شبيب من بغداد إلى الديوانية، ونقل مقر قيادة العقيد صلاح الدين الصباغ من بغداد إلى بعقوبة في محاولة لتشتيت أركان التيار القومي العربي وركائزه في الجيش العراقي، والذين كانوا يلوذون براية الحاج أمين الحسيني، ويناضلون سرًا في إطار “الحركة العربية”. ولما تعذّر إرغام القصر الملكي على التراجع عن هذه الإجراءات، بادر العقداء الأربعة في ليلة 1/4/1941 إلى احتلال وزارة البريد والبرق، وطوقوا قصر الوصي عبد الإله الذي فرّ إلى قاعدة الحبّانية ثم إلى البصرة، وأجبروا طه الهاشمي على الاستقالة، وشكلوا حكومة نصف عسكرية برئاسة رشيد عالي الكيلاني قوامها عشرة وزراء، نصف وزرائها أعضاء في الحركة العربية السرية هم يونس السبعاوي والعقداء الأربعة (راجع: شفيق جحا، الحركة العربية السرية، مصدر سابق، ص 320).
لم تكن هذه الحركة التي عُرفت باسم “ثورة مايس 1941” بداية شوطٍ جديد من النضال في سبيل حرية العراق واستقلاله، بل نهاية حقبة طويلة ممتدة طوتها الحرب العالمية الثانية ونتائجها الكارثية، خصوصًا في فلسطين. ومهما يكن الأمر، فقد تصدّى نفر من بقي من جيل الثورة العربية الكبرى (1916) والثورة السورية الكبرى (1925) والثورة الفلسطينية الكبرى (1936) للقوات الانكليزية وقاتلوها بما امتلكوا من سلاح وعزيمة. وكان من بين هؤلاء من غير العراقيين ممدوح السخن وعبد القادر الحسيني من فلسطين (في منطقة أبو غريب في الأنبار)، وفوزي القاوقجي ومنير الريس وجابر عمر وعثمان الحوراني وسليمان المعصراني وعبد الهادي المعصراني وصبحي العمري ومحمود الهندي وجميل العلواني من سورية (في منطقة الرطبة) وحمد صعب من لبنان الذي استشهد في معارك الرطبة. وفي 27/5/1941 بدأ الجيش البريطاني هجومه على بغداد، فاضطرّ الحاج أمين الحسيني ورشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة إلى مغادرة بغداد: الحاج أمين الحسيني وبعض أركانه إلى إيران، ومنها إلى تركيا، وواصف كمال وأنور القطب وأكرم زعيتر وعادل العظمة وسعيد فتاح الإمام نحو بادية الشام، وتمكنوا من اجتياز الحدود نحو سورية بمساعدة جبران شامية العضو في الحركة العربية السرية، واعتقل يونس السبعاوي وصدّيق شنشل، وأُصيب فوزي القاوقجي في رأسه وجسده جراء غارة جوية بريطانية على مجموعته المنسحبة في بادية دير الزور.
بانهيار حركة مايس 1941 انفرط عقد الجميع، وتبعثرت الحركة العربية السرية، ولا سيما بعد إعدام رئيسها يونس السبعاوي والضباط الأربعة، وتشرّد مئات من أعضائها، وانتهى “التشكيل القومي” نهائيًا، وفرّ أنصار الحاج أمين الحسيني إلى خارج العراق، وتفرقوا أيدي سبأ. وفي تلك الأثناء، كانت بريطانيا قد سيطرت على سورية في يوليو/ تموز 1941، وقضت على حكومة فيشي في سورية ولبنان في عملية Exporter في 8/6/1941 بقيادة الجنرالين شارل ديغول وجورج كاترو، وطردت المفوض السامي الفرنسي هنري دانتز، وأعادت الوصي على عرش العراق عبد الإله إلى قصره في بغداد، ونصّبت حكومة عميلة برئاسة جميل المدفعي، فلم يبقَ، والحال هذه، أي شيء لدى التيار العروبي المنظّم وتشكيلاته السرية، فتفرق رجاله هنا وهناك يفتشون عن ملاذات آمنة، وانخرط بعضهم في البحث عن مناصب في الحكومات الجديدة خصوصًا في لبنان وسورية، وتخلى كثيرون عن أحلامهم في الوحدة العربية، وراحوا يبذلون قصارى جهدهم في الدفاع عن الكيانات التي أنشأتها اتفاقية سايكس – بيكو وكرّسها مؤتمر سان ريمو، بعدما صاروا وزراء وسفراء في تلك الدول الجديدة المتصالحة مع الاستعمارين، الانكليزي والفرنسي.
صقر أبو فخر
صحيفة العربي الجديد