إن النيران التي أشعلت بشكل سري في فناء القنصلية الصينية في هيوستن تسلط الضوء على مرحلة جديدة من الصراع بين الولايات المتحدة والصين، حيث أغلقت السلطات الأميركية القنصلية الصينية الأسبوع الماضي، قائلة إنها مركز للتجسس وسرقة الملكية الفكرية. وقبل إخلاء المقر، سارع المسؤولون الصينيون إلى حرق دلائل الإدانة.
ويقول الكاتب روجر بويز في تقرير بصحيفة “ذا تايمز” The Times البريطانية، إن السبب الذي يفسر إغلاق واشنطن قنصلية الصين في هيوستن دون غيرها هو المشروع الذي يعمل عليه الأميركيون شرق مدينة إل باسو بولاية تكساس، حيث يطور علماء ومهندسون طرقا لكسر السياسة التي تقترب من الاحتكار التي تتبعها الصين في التنقيب عن المعادن الثمينة النادرة.
وتكتسب هذه المعادن أهمية كبرى لأخذ الريادة في عصر المعلومات، فهي تدخل في صناعة الهواتف الذكية والمركبات الكهربائية والصناعات العسكرية وغيرها. ولطالما كانت السيطرة على المعادن المهمة (النفط والذهب) أساس الإمبراطوريات.
ووفّرت الصين 80% من احتياجات الولايات المتحدة للمعادن النادرة بين عامي 2014 و2017، في حين تستأثر بنسبة 85% من القدرة العالمية على معالجتها.
وقد يستغرق الوصول إلى نفس قدرة الصين على معالجة هذه المعادن أو منافسة أسعارها المنخفضة سنوات، وهذا يجعل تهديد إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانفصال عن الاقتصاد الصيني مجرد هراء، وفق الكاتب.
ويذكر الكاتب أن القادة الغربيين لطالما اشتكوا من أن الصين تسعى إلى الاضطلاع بدور عالمي من دون أن تفهم تمامًا مسؤولياتها العالمية. لكنهم لا يدركون أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يرى في الاعتماد المتبادل العالمي قدرة على بسط سلطته العالمية من خلال تهديد الحكومات الضعيفة والشركات الأجنبية الطموحة.
تأخر أميركي
عندما وافقت الولايات المتحدة على بيع أسلحة لتايوان تكهنت الصحافة الصينية بأن بكين ستقطع عن الولايات المتحدة الإمدادات التي تعد حاسمة لإنتاج أسلحة متقدمة، بما في ذلك المعادن الثمينة.
وعلى خلفية ذلك، قام الرئيس الصيني بزيارة لمصنع مغناطيس المعادن النادرة في مقاطعة جيانغشي. والمقصود من هذه الزيارة هو أنه مهما حاولت الولايات المتحدة إنشاء سلاسل إمداد بديلة، فإنها لا تزال متأخرة عن الصين.
ويرى الكاتب أن سياسة رئيس الصين تتمثل أساسا في انخراط بلاده في أي مجال. وتعد مبادرة “الحزام والطريق” إستراتيجية الصين لإنشاء جدار صد ضد الغرب المعادي. وفي الحقيقة، تقوم هذه المبادرة على مبدأ الدرع والسيف.
فمن الناحية الدفاعية، تدرك الصين مدى ضعفها أمام الحصار من البحر، فهي تستورد نحو 80% من نفطها عبر المحيط الهندي ومضيق ملقا عبر بحر جنوب الصين، وتوفر دبلوماسية الحزام والطريق الأموال والائتمان لإنشاء طرق برية للصين لبناء موانئ مائية عميقة.
ومن الناحية الهجومية، يتم في إطار هذه المبادرة إنشاء جزر اصطناعية مع مهابط طائرات في بحر جنوب الصين، وبناء قوة بحرية، وتوقيع عقود التنقيب عن المعادن الإستراتيجية في الدول الغنية بها.
سياسة أفغانية
في هذا الصدد، طوّرت الصين سياسة أفغانية لما تزخر به هذه الدولة من احتياطيات حديد ونحاس وكوبالت، وخاصة الليثيوم. ولفترة من الوقت، كانت الصين تصف أفغانستان بأنها “مملكة الليثيوم”، متجاهلة المخاطر الأمنية الواضحة والسياسة القبلية وحركة طالبان وهشاشة البنية التحتية.
وأشار الكاتب إلى أن الليثيوم والكوبالت والغرافيت من المكونات الرئيسية لبطارية أيون الليثيوم، وهي من بين مفاتيح ثورة النقل القادمة، ويبدو أن الصين تتصرف وفقًا لذلك.
وتمتلك تشيلي أحد أكبر الاحتياطيات المعروفة في العالم من هذه المعادن النادرة، بنحو 8.6 أطنان مترية. لذلك، اشترت شركة صينية حصة تقدر بـ23% في مجموعة مقرها تشيلي.
وإلى جانب المنافسة على مخزونات بوليفيا من الليثيوم، كانت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين محتدمة على مناجم الكولتان في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ إذ يستخدم هذا المعدن في صنع التنتالوم، وهو معدن متصلب حيوي في صناعة الرؤوس الحربية الأميركية.
وبما أن التنقيب عن التنتالوم يتم في ظروف مزرية، ويقوم على عمالة الأطفال، ويستفيد منه أمراء الحرب، ويباع بشكل قانوني إلى الولايات المتحدة، يتعين على الشركات أن تمر بعملية شاقة لتتبع المعدن من استخراجه حتى صهره، لكن الصين ليس لديها مثل هذه المخاوف، فهي تشتري الكولتان وتأخذه إلى الصين ليتم صهره، حسب الكاتب.
وتستخدم جمهورية الكونغو الديمقراطية التنتالوم الرواندي، ف يحين تبيع إنتاجها المحلي إلى الولايات المتحدة؛ وهذا يعني أنه إذا اشتد الخلاف مع إدارة ترامب، فقد ينتهي الأمر برفض بيع هذا التنتالوم “النظيف” إلى الولايات المتحدة.
كما أصبحت جنوب أفريقيا تحظى باهتمام الصين بشكل كبير، لأنها تمثل 80% من إنتاج البلاتين العالمي. ومن المتوقع أن يؤدي فرض لوائح بيئية أكثر صرامة إلى زيادة استخدام المحولات الحفازة البلاتينية في صناعة السيارات؛ لذلك من المرجح أن ينمو الطلب الصيني على هذا المعدن بنسبة 14% هذا العام.
وحسب كاتب التقرير، فإن تخفيف قبضة الصين عن أكثر سلاسل التوريد حساسية في العالم أصبح معقدًا للغاية، وربما لا تمتلك الصين حتى الآن القدرة العسكرية على شن حرب طويلة الأمد ضد الولايات المتحدة، لكنها تستطيع -من خلال تشديد قبضتها على سلاسل التوريد الإستراتيجية- الضغط عليها، وكلما كانت الأسلحة أكثر تعقيدًا زاد اعتمادها على الموارد المنجمية النادرة والمعادن الحيوية.
إن أول درس يمكن تعلمه من السلوك الصيني أنه يتعين على الحكومة الأميركية -وتحديدا البنتاغون- لعب دور أكبر في تمويل دورة الإنتاج الكاملة للمعادن النادرة. ولعل الطريقة الأكثر فعالية لمواجهة الاحتكار الصيني هي تشكيل تحالفات مع دول ذات توجهات متشابهة، وهناك إشارة إلى ذلك في الحديث عن تشكيل تحالف بين الهند ودول المحيط الهادي ملتزم بحرية الملاحة على الطرق البحرية الرئيسية.
ويتمثل النهج الثاني -الذي ربما يكون مكملا- في توسيع تحالف تبادل المعلومات الاستخباراتية المعروف باسم “العيون الخمس”، وقد صرح وزير الدفاع الياباني تارو كونو الأسبوع الماضي بأن بلاده قد تصبح العضو السادس بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا ونيوزيلندا.
المصدر : تايمز