تفجرت من جديد في العراق، عاصفة سياسية وشعبية ضد قرار قضائي عكس استمرار النهج الطائفي لبعض أحزاب السلطة، من خلال تدخلها في القضاء لتبرئة وإطلاق سراح مجرمين ادينوا بقتل عشرات المصلين أثناء صلاة الجمعة في مسجد في محافظة ديالى شرق العراق.
ففي خطوة مفاجئة وغير متوقعة، أقدم القضاء العراقي، وبتأثير من قوى سياسية متنفذة، على إلغاء حكم الإعدام بحق متهمين سبق ان أدانتهم عدة محاكم بارتكاب جريمة قتل العشرات من المصلين في المحافظة عام 2014 حيث تمت الإدانة بناء على شهادات الشهود واعترافات المتهمين بارتكاب تلك الجريمة.
وتفجرت ردود الأفعال الغاضبة على القرار الجديد الذي اعتبره الرافضون له دليلا جديدا على خضوع القضاء العراقي للنفوذ السياسي، وتأكيدا على النهج الطائفي للقوى السياسية في التعامل مع مكونات الشعب العراقي، وذلك لكون الضحايا من المكون السني والمنفذين الذين أفرج عنهم من الميليشيات الشيعية.
وخلفية قرار المحكمة الجديد جاءت على قضية قيام ميليشيات شيعية تسيطر على محافظة ديالى المجاورة لإيران، بارتكاب جريمة إطلاق النار على المصلين في جامع مصعب بن عمير أثناء صلاة الجمعة عام 2014 ما أسفر عن مقتل 34 منهم إضافة إلى عشرات الجرحى. وقد أصدرت المحكمة حكما عام 2015 بالإعدام على بعض مرتكبي المجزرة بعد اعترافهم بارتكابها ولوجود أدلة جرمية واضحة وعشرات الشهود عليهم، إلا ان قوى سياسية متنفذة تدخلت لإعادة المحاكمة وليتم تبرئة المتهمين وإطلاق سراحهم.
غضب عارم لطمس المجزرة
وردا على قرار المحكمة، شن نواب وسياسيون سنة، حملة إدانة لتسييس القضاء وإطلاق سراح مجرمين اعترفوا بارتكاب المجزرة، وفي المقابل الإبقاء على عشرات الىلاف من الأبرياء في السجون.
فقد وجه النائب عن محافظة ديالى رعد الدهلكي، برقية تعزية إلى الشعب العراقي، بعد إصدار القضاء قرارا تمييزيا بتبرئة الإرهابيين الذين نفذوا جريمة قتل المصلين في مسجد مصعب بن عمير في المحافظة.
وقال الدهلكي في بيانه، انه “في 22 آب/اغسطس 2014 هاجم أفراد ينتمون إلى الميليشيات الإرهابية في محافظة ديالى، مسجد مصعب بن عمير، وقتلوا 34 مصلياً كانوا يؤدون صلاة الجمعة” مبينا انه “في26 أيار/مايو 2015 أصدرت وزارة الداخلية العراقية بياناً قالت فيه ان محكمة جنايات الرصافة الهيئة الأولى وبموجب قرارها المرقم 161/ج1/ 2015 أصدرت حكمها بالإعدام شنقاً حتى الموت بحق المدانين الذين ثبت جرمهم في قضية الحادث الإرهابي الذي أدى إلى مقتل مصلين في جامع مصعب بن عمير في محافظة ديالى وكان هناك عشرات من شهود العيان من الناجين قد شهدوا ضدهم”.
وأضاف “اليوم، وبعد مرور خمس سنوات، يصدر قرار تمييزي بالإفراج عن القتلة ويتم استقبالهم بالهتافات وإطلاق النار في منطقة حمرين التابعة لناحية السعدية” لافتا إلى أننا “في الوقت الذي نعزي فيه انفسنا والشعب العراقي بوفاة الحق والدولة والقانون العراقي، فإننا نحذر من أن هكذا إجراء مستغرب سيعطي رسالة سلبية إلى الشعب العراقي بأن القانون والتجريم في العراق تم تفصيله على مقاس مكونات ويتم على أساس الفاعل وليس على أساس الفعل”.
وتسائل الدهلكي “كيف يمكننا الآن مواساة أرامل ويتامى المغدروين وهم يشاهدون قاتليهم يرقصون أمام ناظريهم، وأي قوة على الأرض يمكنها اليوم أن تمنع هؤلاء الضحايا من الإنضمام لأي جماعة مسلحة حاضرا أو مستقبلا لمجرد الانتقام وأخذ حقوقهم التي تنازل عنها القانون بعد أن أثبت انه مفصل لتبرئة جهات محددة وتجريم جهات أخرى بغض النظر عن الفعل ومن الجاني ومن الضحية”.
وأشار إلى “ان هناك جهات ترفض استقرار المحافظة وأنها توجه رسالة إلى أهالي ديالى بعد الإفراج عن المتورطين بقضية مسجد بن عمير مفادها عليكم ان تبقوا مهجرين وان تسكتوا عن دماء أهلكم وأبنائكم” ووجه الدهلكي السؤال إلى القاضي الذي أصدر حكما بالإفراج عن المتورطين بقضية المسجد “ماذا ستقول لأهالي 34 شهيدا قضوا في المجزرة؟”.
وفيما قال رئيس جبهة الإنقاذ والتنمية، أسامة النجيفي، في تغريدة عبر “تويتر”: “ساءنا ما سمعنا من أخبار عن إطلاق سراح مجرمين محكومين بالإعدام، ارتكبوا مجزرة مروعة في ديالى” مضيفًا: “نأمل من مجلس القضاء أن يوضح حقيقة الأمر بشكل عاجل” فإن رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري، أدان إطلاق سراح مرتكبي المجزرة ، مشيرا في تغريدة على “تويتر” إلى إن “إطلاق سراح مرتكبي مجزرة جامع مصعب بن عُمير في ديالى طعنة قاتلة في قلب العدالة بخنجر الظلم المسلط عليها منذ سنوات طويلة”.
مجلس عشائر ديالى من جانبه، وصف قرار إطلاق سراح المجرمين الذين ارتكبوا مجزرة مسجد مصعب بن عمير، بأنه “كارثة أخلاقية وقانونية” داعيا القضاء للتراجع عن قراره ومحاسبة المجرمين، فيما خرجت عائلات الضحايا في تظاهرة وهم يحملون صور أبناءهم المغدورين مطالبين بالعدالة والقصاص من المجرمين الذين نفذوا المجزرة.
وسبق لائتلاف الوطنية بزعامة اياد علاوي، ان طالب بتدويل مجزرة ديالى، في إقرار منه بتأثير نفوذ القوى السياسية على القضاء العراقي لطمس آثار الجريمة.
السلطات تبرر
وفي إطار تبرير السلطات القضائية والأمنية لإطلاق سراح المجرمين المتورطين في مجزرة ديالى، فإن الناطق باسم وزارة الداخلية سعد معن اعترف “إن الهجوم على مسجد مصعب بن عمير قد يكون للانتقام من تفجير وقع في المنطقة في وقت سابق من اليوم نفسه وأودى بحياة عدد من رجال الميليشيات الشيعية”.
إلا أن وصف الهجوم على المسجد بأنه “رد فعل عادي وعفوي دافعه الانتقام!” مشيرا إلى أن السلطات تعرفت على ثلاثة مشتبه بهم تورطوا في الهجوم.
أما مجلس القضاء الأعلى، فقد برر قرار تبرئة المجرمين قائلا: “أن محكمة التمييز دققت القضية ووجدت أن الأدلة فيها غير كافية لإصدار قرار حكم سواء بعقوبة الإعدام أو بغيرها ذلك ان المتهمين أنكرا التهمة أمام قاضي التحقيق وأمام محكمة الجنايات”.
وأضاف بيان المجلس، أن “أقوال الشهود والمشتكين تناقضت أمام القائم بالتحقيق، والأدلة العملية غير متوفرة في الدعوى وأن الدليل الوحيد في القضية هو اعتراف المتهمين أمام القائم بالتحقيق في مرحلة التحقيق الابتدائي وهو لا يكفي سببا للحكم سيما وان التقرير الطبي الخاص بفحصهم يشير إلى تعرضهم للضغط ولكون تلك الأدلة المتحصلة لا ترتقي إلى مستوى الدليل المعتبر قانونا لذا قررت المحكمة نقض القرار الصادر بحقهم والإفراج عنهم”.
وقد رد على بيان مجلس القضاء الأعلى، نواب دحضوا حجة إطلاق سراح المتهمين، حيث ذكر النائب ظافر العاني، في تدوينة، إنه “عندما يصدر توضيح من مجلس القضاء بأن الاعتراف بوسائل الضغط وعدم تطابق أقوال شهود العيان ليست سببا للتجريم رغم أن قتلى مسجد مصعب بن عمير 34 فإننا لا يسعنا إلا أن نطالب بنفس المعاملة للحالات المماثلة لمن انتزعت منهم الاعترافات بالقوة وبتقرير المخبر السري”.
وبدوره استغرب عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، النائب محمد الكربولي، تناقض القضاء عندما يحرم الأبرياء من إعادة المحاكمة ويبرئ آخرين متلبسين بالأدلة الجرمية.
وقال الكربولي في تغريدة على “تويتر” إنه “تكريسا لسيطرة اللا دولة على مؤسسات العدالة.. تم إطلاق سراح منفذي جريمة قتل 34 مصليا أعزل في جامع مصعب بن عمير في دیالی 2014 بعد تمييز حكم الإعدام الصادر بحقهم على الرغم من القبض عليهم متلبسين بالأدلة الجرمية” وأضاف “بينما يصر القضاء نفسه على تنفيذ أحكام الإعدام والمؤبد بحق الأبرياء الذين لفقت لهم تهم كيدية واعترافات مزيفة تحت سياط الجلاد وتهديد هتك الأعراض، ويحرمهم من حق التمييز أو إعادة المحاكمة”.
وكانت منظمة “هيومان رايتس ووتش” قد أعلنت “إن أفراد ميليشيا التحقت بالشرطة والجيش العراقيين في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية برعاية أمريكية، هي التي قتلت 34 مصليا كانوا يؤدون صلاة الجمعة يوم 22 آب/أغسطس في مسجد مصعب بن عمير في قرية امام ويس بمحافظة ديالى”.
ونقلت “هيومان رايتس ووتش” عن شهود من بينهم أحد الناجين من المذبحة “أن رجالا مسلحين بعضهم كانوا يرتدون ملابس مدنية وبعضهم الآخر كانوا يرتدون ملابس شرطة هاجموا المسجد وقت صلاة الجمعة وقتلوا 32 مصليا وامرأة واحدة وفتى يبلغ من العمر 17 عاما”. وقال الشهود “إن جميع القتلى كانوا مدنيين حضروا لأداء صلاة الجمعة، وأن المهاجمين صوبوا أسلحتهم نحو إمام الجمعة أثناء إلقائه الخطبة ثم واصلوا إطلاق النار على المصلين”.
وطالبت المنظمة السلطات العراقية إجراء تحقيق في الهجوم واعتقال المسؤولين عنه، كما حثت الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تدعم قوات الأمن العراقية على تعليق مساعداتها لهذه القوات حتى توقف الحكومة العراقية الانتهاكات التي تقترفها الميليشيات وقوات الأمن. وقالت “لا يجوز لحلفاء العراق الغربيين ان يسمحوا للموالين للحكومة العراقية باستخدام الحرب ضد متطرفي الدولة الإسلامية كعذر لقتل المدنيين السنة”.
أما هيئة علماء المسلمين (المعارضة للعملية السياسية) فقد ذكرت في إحصاء لها، أن مجزرة جامع مصعب بن عمير، هي واحدة من عشرات المجازر التي ارتكبتها الميليشيات في ديالى بحق أهل السنة، منها مهاجمة جامع سارية (65 قتيلا) وجامع ابي بكر الصديق (36 قتيلا) وجامع ابي القاسم محمد (42 قتيلا) ومجزرة قتل 55 معتقلا داخل سجن مركز شرطة الوحدة وإعدام 35 معتقلا دون محاكمة في سجن الخالص ومجزرة قرية بروانة التي قتلت المليشيات فيها 78 من سكان القرية، إضافة إلى نسف وحرق واستيلاء على مئات المساجد والأراضي الزراعية في المحافظة. وأفادت الهيئة ان معظم هذه الجرائم وقعت في الأعوام 2014 و 2015 وما بعدها.
وأكدت مصادر من محافظة ديالى لـ”القدس العربي” ان المتهم الأكبر في تنفيذ الجريمة، هرب إلى إيران. علما بأن المحافظة تضم خليطا من المكونات المتعايشة منذ القدم، إلا أن الميليشيات الشيعية التي سيطرت على المحافظة بعد 2003 تقوم بتنفيذ مخطط للتغيير الديموغرافي من خلال استهداف مكون معين لتهجيره عن المحافظة عبر عشرات عمليات القتل الجماعي والخطف وتفجير المساجد أو الاستيلاء عليها وقصف المدن النائية والقرى، إضافة إلى تخيير سكان بعض المناطق بين النزوح عنها أو القتل بحجة الانتماء للإرهاب. وما يزال عشرات الآلاف من أبناء المحافظة مهجرين ويسكنون مخيمات النازحين في شمال العراق رغم تحرير مناطقهم من تنظيم “داعش” منذ سنوات، وذلك بسبب رفض القوى السياسية الشيعية وميليشياتها السماح لهم بالعودة.
ويبدو ان توقيت إصدار قرار الإفراج عن قتلة المصلين في جامع مصعب بن عمير الآن، هو جزء من حملة الدولة العميقة ضد حكومة مصطفى الكاظمي بهدف خلق المزيد من المشاكل لها، إضافة إلى تأجيج المشاعر الطائفية من جديد بعد أن خفت في الآونة الأخيرة.
ويبقى السؤال البسيط والمحير، أنه إذا كانت عناصر الميليشيات الطائفية، أبرياء من عمليات قتل المصلين وتدمير المساجد وتهجير أبناء القرى والمدن، فمن الذي ارتكب الجرائم فيها إذن؟
القدس العربي