في 4 أغسطس/ آب، دمر انفجار هائل مرفأ بيروت، في عاصمة لبنان. نتج من 2750 طناً من نترات الأمونيوم، تركتها سلطات الجمارك مخزنة في مستودع على رصيف المرفأ لمدة ست سنوات. أدى الانفجار إلى مقتل 171 شخصاً على الأقل وتشريد 300 ألف شخص. قد تكلف الكارثة ما يصل إلى 15 مليار دولار، أي ربع الناتج المحلي الإجمالي للبنان.
أجبرت الاحتجاجات الغاضبة رئيس الوزراء حسان دياب على الاستقالة في 10 أغسطس. وهو ثاني رئيس وزراء لبناني يستقيل في أقل من عام، وسط أزمة اقتصادية متفاقمة. ويشرح تقرير نشره موقع “موني ويك” البريطاني، أن الانفجار أصبح رمزاً لعدم كفاءة الحكومة والفساد في مدينة غالباً ما تعاني من أزمة في القمامة، ولا تعمل إشارات المرور، كذلك فإن انقطاع التيار الكهربائي يومياً هو حقيقة من حقائق الحياة… فكيف كان واقع الاقتصاد قبل الانفجار؟
ما مدى سوء الاقتصاد؟
يقول معهد التمويل الدولي إن الاقتصاد اللبناني في طريقه إلى الانكماش بنسبة 24% هذا العام. بلغت نسبة البطالة 35%. فقدت الليرة اللبنانية 80% من قيمتها مقابل الدولار منذ أكتوبر الماضي. لبنان هو واحدة من دولتين في العالم تشهدان تضخماً مفرطاً (والآخر هو فنزويلا)، حيث ارتفعت الأسعار بوتيرة سنوية تقارب 90% في يونيو/ حزيران، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 246.6%. تستورد البلاد أكثر من 80% من غذائها.
اقتصاد عربي
“ستاندرد أند بورز” تخفض تصنيف سندات خزينة لبنانية إلى فئة “التعثّر”
ولجأ بعض المواطنين إلى المقايضة، حيث عرضت إعلانات على فيسبوك لمقايضة ملابس بزيت طهو ومواد غذائية. وتتعامل البنوك مع نقص الدولار من خلال فرض قيود سحب صارمة، حيث تقتصر قدرة المودعين على الوصول إلى 200 دولار لكل أسبوعين من أموالهم الخاصة. الأسعار المتغيرة بسرعة والتي لا يمكن التنبؤ بها، سمة مميزة أخرى للتضخم المفرط، ويمكن أن تؤدي إلى فوضى كبيرة.
ما سبب التضخم المفرط؟
السبب الجذري للتضخم المفرط هو نفسه دائماً، وفق “موني ويك”، حيث تستخدم البنوك المركزية المطابع لتمويل العجز الحكومي. لكن في لبنان، تأتي القصة بلمسة محلية. الليرة اللبنانية مربوطة رسمياً بالدولار بمعدل مبالغ فيه بشكل مثير للسخرية (1500 ليرة لبنانية/ دولار رسمياً، مقابل نحو 8500 ليرة لبنانية/ دولار في السوق السوداء).
اختار مصرف لبنان المركزي، في عام 2016، نهجاً أطلق عليه اسم “الهندسة المالية”. حيث قدم البنك معدلات فائدة سخية، تصل إلى 11%، للبنوك التجارية كجزء من عمليات المقايضة المعقدة للديون الحكومية.
ويعاني الاقتصاد اللبناني المعتمد بشدة على الاستيراد من ضعف هيكلي في ميزان المدفوعات، ما يعني أن الدولارات تميل إلى التدفق خارج البلاد. وبدلاً من تخفيض القيمة، اختار مصرف لبنان المركزي، في عام 2016، نهجاً آخر أطلق عليه اسم “الهندسة المالية”، حيث قدم البنك معدلات فائدة سخية، تصل إلى 11%، للبنوك التجارية كجزء من عمليات المقايضة المعقدة للديون الحكومية.
واجتذبت معدلات الفائدة المرتفعة دولارات جديدة إلى النظام المصرفي من الأجانب في الشتات اللبناني والخليج. كان المصرفيون أكثر من سعداء بجمع عائدات سخية خالية من المخاطر، وحصلت الحكومة، من خلال مصرف لبنان، على الدولارات التي تحتاجها لتمويل ديونها الخارجية.
تكمن المشكلة في أن السيولة النقدية لدى البنك المركزي كانت تنفد لدفع معدلات الفائدة التي فرضها على نفسه، ما دفعه إلى اقتراض المزيد من الدولارات من البنوك.
أطلق الاقتصاديون على الديناميكية هذه اسم “مخطط بونزي”. ويعتقد صندوق النقد الدولي أن البنك المركزي خسر 49 مليار دولار من احتياطاته. كذلك أدت أسعار الفائدة المرتفعة إلى تحويل أموال البنوك بعيداً عن القروض إلى الأعمال التجارية في الاقتصاد الحقيقي ونحو العوائد المالية المهندسة للبنك المركزي.
ماذا عن الدين الحكومي؟
في مارس/ آذار، تخلفت الحكومة اللبنانية عن سداد ديونها لأول مرة على الإطلاق. ومع نسبة دين إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 170%، يُعَدّ لبنان ثالث أكثر دولة مثقلة بالديون في العالم.
والطبقة السياسية، كما قال ديفيد جاردنر في الفاينانشيال تايمز، هي إلى حد كبير “أمراء الحرب المتقاعدون”، واستند الاتفاق ما بين هؤلاء لإنهاء الحرب إلى نظام “طائفي”، يضمن أن تتمتع الطوائف المسيحية والسُّنية والشيعية بتمثيل سياسي. أقام أمراء الحرب إقطاعيات جديدة لأنفسهم ولأتباعهم في القطاع العام، كما يشير توفيق كسبار، الباحث والخبير الاقتصادي اللبناني، حيث قفزت نسبة وظائف القطاع العام من 10% قبل الحرب الأهلية إلى أكثر من 25% اليوم.
تعهد الشركاء الدوليون بتقديم 300 مليون دولار كمساعدات للبنان، لكن هذه ليست سوى قطرة في محيط. يخشى قادة العالم من أن المزيد من المساعدة الجوهرية لن يصل إلا إلى جيوب السياسيين الفاسدين.
طلاب لبنانيون
اقتصاد الناس
اللبنانيون يواجهون فساد سلطتهم وتعسف مصرف لبنان
في علامة أخرى على الخلل الوظيفي في بيروت، وفق تقرير الموقع البريطاني، لم يتمكن صندوق النقد الدولي حتى الآن من تقديم حد ائتمان طارئ، حيث لا يستطيع السياسيون حتى الاتفاق على حجم خسائر النظام المصرفي. المزيد من حالات التخلف عن السداد ليست حلاً سحرياً: حيلة “الهندسة المالية” تركت البنوك اللبنانية تحتفظ بنحو ثلثي الدين الحكومي.
تشير الأرقام الصادرة عن IHS Market إلى أن “خفض رأس المال” بنسبة 18% فقط من شأنه أن يترك البنوك المحلية في حالة إفلاس، فيما تفعيل الإصلاح الاقتصادي وتقاسم الخسائر المالية بشكل عادل بين البنوك والمودعين والدولة يتطلب نوعاً من الإرادة السياسية والشرعية العريضة التي لا تمتلكها القيادة اللبنانية.
العربي الجديد