ما بعد الجائحة: الحكومات ترثي شلل اقتصادها وسياستها العاجزة

ما بعد الجائحة: الحكومات ترثي شلل اقتصادها وسياستها العاجزة

من مدريد إلى باريس مرورا بنيوزيلندا وبوتان وسراييفو وصولا إلى دول المنطقة العربية، تتصاعد المخاوف حيال موجة ثانية محتملة من الإصابات، ما دفع العديد من العواصم إلى إصدار إنذار وتشديد تدابيرها الوقائية. وتكشف العودة القوية للفايروس عن عجز حكومات العالم، من معسكر الدول المتقدمة أو النامية على حد سواء، عن السيطرة على الأوضاع الصحية التي تزداد خطورة، ما يعني حسب متابعين أنه لا رابح حاليا في معركة التعافي من الجائحة.

نيويورك- حظيت الكثير من الحكومات في وقت ما بالإشادة لطريقة تعاملها “الملتزم بالقواعد المعروفة” مع جائحة فايروس كورونا المستجد من خلال تطبيق إجراءات إغلاق صارمة أو استخدام التطبيقات المعقدة للأجهزة الذكية لتتبع المخالطين لمرضى الفايروس وتبني السياسات الموضوعة بوضوح. لكن يبدو أن كل ذلك تعثر بشيء ما في ما بعد.

ففي سنغافورة تفشى الفايروس من مجمعات مساكن العمال الأجانب. وفي كوريا الجنوبية كان الخطأ هو التسرع في إعادة فتح الملاهي الليلية. وكانت هناك دول أخرى لم تفعل أي شيء خطأ، ومع ذلك ما زالت تعاني من تداعيات الجائحة. وهذا يعني شيئا واحدا وهو أنه لا يوجد انتصار في معركة التعافي الاقتصادي من تداعيات الجائحة بحسب المحللين، حيث تساوت نتائج المعركة ضد الوباء بين الدول الفقيرة والمتقدمة، وربما كانت السيئة للغاية في دول مصنفة قوى إقليمية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.

أما بالنسبة لدول المنطقة العربية التي تعاني بدورها انتكاسة وبائية، فليس مستغربا عودة الفايروس بقوة في ظل ضعف إمكانياتها الصحية. وعجزت الجهود الحكومية عن تقويض استشراء الوباء مجددا في دول مثل المغرب وتونس ولبنان والأردن، وسط مخاوف من تداعيات اقتصادية خطيرة وتردِّ للأوضاع المالية قد يصعّب السيطرة عليها في خضم الأشهر القليلة المقبلة.

وعلى سبيل المثال حذر وزير الصحة اللبناني في الحكومة المستقيلة حمد حسن من أنه “وصلنا إلى شفير الهاوية”، مشيرا إلى توصيته بإقفال البلاد لمدة أسبوعين كاملين، مع الحفاظ على خصوصية المناطق المتضررة جراء انفجار مرفأ بيروت حيث تنشط منظمات الإغاثة. فيما دق العاهل المغربي الملك محمد السادس ناقوس الخطر، محمّلا الحكومة مسؤولية تردي الأوضاع الصحية.

وبينما يبدو انتصار الوباء في الدول المنطقة الفقيرة والنامية مبرّرا، غير أنه يكشف عن وهم التقدم الصحي الذي لطالما تباهت به الدول الغربية.

وفي مقال نُشر للكاتب بانكاج ميشرا في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”، طرح الكاتب فكرة أن الجائحة كشفت عن أن “أكبر الرابحين في التاريخ المعاصر يبدون الآن أكثر الخاسرين في ظل أنظمتها السياسية الفاقدة للشرعية واقتصاداتها المشوهة على نحوٍ غريب وعقودها الاجتماعية الممزقة”.

ويتطلع العالم إلى المستقبل يحدوه الأمل والطموح (برغم الزلزال الهائل الذي تعرّض له)، بينما يقف الغرب في مفترق طرق على شاكلة الغارق في مستنقع. ويتساءل ميشرا “هل تستمر دول مثل الولايات المتحدة على درب الانحدار، أم تُعيد اكتشاف المجتمعات والاقتصادات الخاصة بها فتضع أساسا لإنقاذ الفقراء والطبقة العاملة قبل الغرق؟ ومما لا شك فيه أن الجائحة أعادت طرح هذا التساؤل بوضوح”.

ومن جهته يعلق جوزيف دانا رئيس التحرير بمؤسسة “Émerge 85″، قائلا “لو بدأنا التأمل في عالم ما بعد الجائحة، لاتّضح لنا أن الأمر لم يعُد قاصرا على الاقتصاد. لا شك أن الغرب -وحتى أميركا- سيظل مهيمنا على قوة اقتصادية مهولة؛ لكن لا مفر من تغيير فكرتنا عن الشكل الذي يسير به العالم”.

ويلفت إلى أن الإطار الخاص بالقرن العشرين والمعنيّ بتقسيم العالم إلى دول متقدمة وأخرى نامية، لم يعُد صالحا للاستمرار. وقدم مثالا على نجاح دولة الإمارات في السيطرة على الوباء، في مقابل سلسلة فوضوية من التردد في صنع القرار أعقبت “قرارات حاسمة” أقدمت عليها المملكة المتحدة.

وبينما بدت الإمارات الأكثر نجاعة في المعركة الصحية مقارنة ببريطانيا، يتساءل دانا “هل يمكننا مواصلة الادعاء بأن المملكة المتحدة دولة ‘متقدمة’ وأن أبوظبي ضمن نادي المجتمعات ‘النامية’؟”.

تدهور الاقتصاد الآسيوي

لم تكن دول شرق آسيا التي تعد اقتصاداتها نموذجا عالميا، بدورها قادرة بشكل كاف على التغلب على الوباء أو التفاعل بنجاعة مع ارتداداته الاقتصادية.

وفي تحليل اقتصادي نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء، قال دانيال موس المختص في اقتصاديات شرق آسيا، إن ماليزيا تمثل نموذجا جيدا لصعوبة الانتصار في المعركة ضد تداعيات كورونا رغم اتخاذ كل الإجراءات الصحيحة.

ففي حين اتخذت ماليزيا كل الإجراءات الجيدة منذ البداية، فإنها تعاني من أسرع تدهور بين اقتصادات شرق آسيا. وقد بلغ معدل الانكماش في ماليزيا خلال الربع الثاني من العام الحالي 17.1 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

وكانت الدولة الآسيوية قد تحركت بسرعة لاحتواء الجائحة، وفرضت قيودا صارمة على الحركة والانتقال، وخفضت أسعار الفائدة بشدة، وتبنت الحكومة ميزانيات تكميلية لتمويل الزيادة في الإنفاق العام وأجّلت سداد القروض. وفي المقابل نجح النظام الصحي الجيد في الحد من انتشار الفايروس، حيث وصل إجمالي عدد المصابين في ماليزيا، حتى الخميس الماضي إلى 9240 إصابة والوفيات إلى 125 وفاة، وهو ما يقل بشدة عن معدلات الإصابة والوفيات في باقي دول المنطقة.

ورغم ذلك فإن اقتصاد ماليزيا يعاني من انكماش حاد وواسع النطاق. ولا يقتصر الأمر على الصادرات والإنفاق الاستهلاكي ولكن أيضا باتت قدرة الحكومة على دعم النشاط الاقتصادي محدودة بصورة ملحوظة.

وكانت السيدة نور شمسية محمد يونس، محافظ البنك المركزي الماليزي، محقة عندما تجنّبت المبالغة في تصوير التحسن الاقتصادي الذي قالت إنه يحدث حاليا. وخلال مؤتمر صحافي عقدته في 14 أغسطس الحالي لمناقشة تدهور الاقتصاد خلال الربع الثاني من العام الحالي، استخدمت بكثرة كلمات مثل “التدريجي” و”الحذر” لوصف النشاط الاقتصادي الحالي.

وقد يحق للمواطنين في ماليزيا السؤال: أين مردود قيامنا بالإجراءات الصائبة في مواجهة كورونا؟ فبالنسبة لدولة قلصت الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية بشدة، ما زالت حالة الاقتصاد سيئة في ظل إجراءات الإغلاق.

ومن المتوقع انكماش الاقتصاد الماليزي خلال العام الحالي ككل بما يتراوح بين 3.5 و5.5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهو ما يتناقض مع التوقعات السابقة التي كانت تشير إلى نمو طفيف.

وكان المفترض أن يكون الربع الثاني من العام الحالي هو الأسوأ بالنسبة لاقتصاديات شرق آسيا ككل. وبغض النظر عما إذا كان التدهور حادا أم تدريجيا، وبغض النظر عن مدى تأخره، فإن الانكماش الاقتصادي كان أكبر مما هو متوقع.

والآن أصبح التعافي الاقتصادي يعتمد على التطورات العالمية بنفس قدر الاعتماد على المبادرات المحلية. وقد وجدت الدول التي تعتمد على التصدير مثل ماليزيا اقتصاداتها تستيقظ على عالم أوضاعه ليست جيدة. ونادرا ما يستخدم الناس تعبير “التعافي السريع” حاليا.

ارتباك دولي

مع ذلك لا يمكن توجيه اللوم إلى ماليزيا التي تعاملت بجد مع أزمة الفايروس وعانت اقتصاديا، بينما عجزت الدول الأكثر تقدما عن الانتصار على الجائحة.

وفي الأثناء، وفي ظل ارتباك حكومات العالم، يواصل فايروس كورونا المستجد من خلال استمرار تفشيه على نطاق واسع في عدد من الدول، تقويض الاقتصادات وبث الفوضى في عدد لا يُحصى من الأحداث الرياضية والسياسية والثقافية والدينية.

وأوصت ألمانيا بعدم السفر إلى باريس والكوت دازور بعد ارتفاع أعداد الإصابات في هاتين المنطقتين الفرنسيتين، بينما تصنّف قبرص اعتبارا من الجمعة فرنسا في الفئة ج (سي) التي يخضع القادمون منها الجزيرة لحجر إجباري من أسبوعين.

وتعتزم إسبانيا التي تجاوزت الاثنين عتبة الـ400 ألف إصابة، فرض “تدابير صارمة” في العاصمة مدريد، مثل عزل مناطق محددة أو الحدّ من حركة السكان، وفق ما أعلن مدير مركز الطوارئ الصحية في وزارة الصحة فيرناندو سيمون.

اقتصاد ماليزيا يعاني من انكماش حاد وواسع النطاق. ولا يقتصر الأمر على الصادرات والإنفاق الاستهلاكي ولكن أيضا باتت قدرة الحكومة على دعم النشاط الاقتصادي محدودة بصورة ملحوظة

وفي قطاع السفر البريطاني، ألغيت أكثر من تسعين ألف وظيفة أو هي معرّضة للإلغاء بسبب الوباء، وفق جمعية وكلاء السفر “أبتا”. ويُتوقع في جنوب أفريقيا أن يستغرق الخروج من الركود المعلن عام 2020، خمس سنوات، وفق الأمم المتحدة التي تخشى ارتفاعا حادا في مستوى الفقر والتفاوت الاجتماعي.

ودعت الأمم المتحدة الثلاثاء إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين الدول للحد من “الوطأة المدمرة” لوباء كوفيد – 19 على القطاع السياحي الذي يشكل مصدر العائدات الرئيسي لبعض الدول.

وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في بيان “خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة، تراجعت حركة وصول السياح الأجانب إلى الدول بأكثر من النصف وتمت خسارة حوالي 320 مليار دولار من العائدات السياحية”.

وبحسب أرقام الأمم المتحدة فقد تصل الخسائر الإجمالية للعام 2020 إلى أكثر من 900 مليار دولار.

العرب