فوجئ الرأي العام في تركيا، قبل نحو عشرة أيام، بتصريحات مسؤولين أتراك ينتقدون فيها تصريحات لمرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية جو بايدن بخصوص تركيا. وسبب المفاجأة هو أن تصريحات بايدن المشار إليها تم نشرها في صحيفة نيويورك تايمز في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، ولم يبادر أي سياسي تركي للرد عليها، لا في السلطة ولا في المعارضة. فما الذي حدث فجأة ليستعيد الأتراك تلك التصريحات التي أزعجتهم من الأرشيف ويحوّلوها إلى مادة للتجاذب السياسي بين السلطة والأحزاب المعارضة؟
ولكن لنلق نظرة، قبل ذلك، على القسم الخاص بتركيا من تصريحات بايدن، وما يمكن أن يكون قد أثار استياء الأتراك منها.
قال بايدن، في مقابلته مع صحيفة نيويورك تايمز، إنه سيدعم أحزاب المعارضة لتغيير السلطة في تركيا. واستدرك قائلاً: «ليس بواسطة انقلاب عسكري، بل عن طريق صناديق الاقتراع». وبخصوص الموضوع الكردي قال بايدن: «إن آخر ما يمكن ان أفعله هو الرضوخ لأردوغان بشأن الموضوع الكردي». مضيفاً أنه «يتوجب علينا الاهتمام بوسائل عزل الفعاليات التركية في محيطها الإقليمي». «علينا أن نظهر دعمنا لقادة المعارضة بوضوح». «على أردوغان أن يدفع الثمن بخصوص صفقة أنظمة الدفاع الجوي (الروسية). علينا أن نقرر بوضوح هل سنواصل بيع أسلحة معينة لتركيا أم لا».
هذه أبرز بنود ما قاله بايدن بشأن تركيا في المقابلة المذكورة. وهي تصريحات استفزازية حقاً لا يتوقع صدورها من رجل شغل، في فترة سابقة، منصب نائب الرئيس، ومرشح الآن لموقع الرئاسة، بشأن دولة حليفة في حلف الناتو. ويتوقع المرء رداً فورياً من الأتراك من منطلق أن كلام بايدن هو تدخل غير مقبول في الشؤون الداخلية التركية. غير أن تلك التصريحات مرت من غير أن يعيرها السياسيون الأتراك أي اهتمام، والمفاجئ أنهم استعادوها بعد مرور سبعة أشهر ليصبوا جام غضبهم على الرجل. بالنسبة لدوافع بايدن من وراء التصريحات المذكورة، من المحتمل أن الرجل الذي كان وقتها مرشحاً بين عدد من مرشحي الحزب الديمقراطي، أراد أن يقول للصحيفة الأمريكية الأولى من حيث التأثير السياسي ما تريد سماعه منه طمعاً في كسب تأييدها لترشيحه، ومعروف موقف الصحيفة من القيادة التركية التي تحظى برعاية مميزة من الرئيس دونالد ترامب. كلام بايدن بخصوص تركيا، إذن، كان من نوع الدعاية الانتخابية لترشيحه، وقد تحقق له ذلك باختياره مرشحاً للحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة، وقد لا يعبر بالضرورة عن قناعاته أو عما ينوي اتباعه من سياسات تجاه حليفتها تركيا، سياسات ستخضع، بطبيعة الحال، لاعتبارات عديدة قد لا تأبه بمشاعر الرجل تجاه القيادة التركية.
تتردد عبارة «العقل الأعلى» هذه على ألسنة الساسة الأتراك بكثرة في اتهام الخصوم بأنهم مجرد بيادق في لعبة شطرنج دولية يحرك خيوطها الأمريكيون أو غيرهم من القوى الامبريالية التي تريد الهيمنة على تركيا أو تقسيمها أو تدميرها
كيف استعادت اليوميات التركية تلك التصريحات القديمة، الآن، ولماذا؟
تحققت صحف تركية من أن صحافياً كردياً من إقليم كردستان مقرب من قيادة الإقليم نشر التصريحات المذكورة في تغريدة له على شبكة تويتر، ثم تناقلتها مواقع إخبارية تركية على شبكة الانترنت، فكانت ردود الفعل الغاضبة من ناطقين باسم السلطة كالناطق الإعلامي باسم الحكومة فخر الدين آلتون والمستشار الرئاسي إبراهيم كالن، ومن قادة المعارضة أيضاً. فشددوا جميعاً على أن تركيا دولة مستقلة لا تتلقى الأوامر والتعليمات من دول أخرى. وتعاملت الصحافة الموالية مع تصريحات بايدن وكأنها هدية لا تقدر بثمن، لأنها تشكل برأيها إدانة صريحة للمعارضة، في حين أخذت المعارضة على السلطة كونها تأخرت سبعة أشهر في الرد على كلام بايدن غير المقبول.
فلطالما اتهمت الصحافة الموالية أحزاب المعارضة، وبخاصة حزب الشعب الجمهوري، بالتحالف مع «الانفصاليين» (المقصود حزب الشعوب الديمقراطي) ومع تنظيم فتح غولن المصنف إرهابياً، وبالتنسيق مع «العقل الأعلى» الذي يقصدون به الولايات المتحدة حيناً، ورأس المال العالمي حيناً، وأشياء غامضة كالماسونية العالمية حيناً آخر. الواقع أن هذه السلعة (العقل الأعلى) تلقى رواجاً شعبياً كبيراً تشهد عليه كثرة قنوات اليوتيوب التركية التي تبث تحليلات سياسية قائمة على نظرية المؤامرة، ويتابعها مئات آلاف المشتركين. وتتردد عبارة «العقل الأعلى» هذه على ألسنة الساسة الأتراك بكثرة في اتهام الخصوم بأنهم مجرد بيادق في لعبة شطرنج دولية يحرك خيوطها الأمريكيون أو غيرهم من القوى الامبريالية التي تريد الهيمنة على تركيا أو تقسيمها أو تدميرها… تبدو هذه التهويمات مألوفة لنا في سوريا وغيرها من البلدان المبتلية بأنظمة دكتاتورية تصف كل معارضيها بالعمالة لأمريكا والغرب.
من المحتمل أن لاستعادة تصريحات بايدن، بعد مرور سبعة أشهر على نشرها، وظيفة سياسية أخرى غير التجاذبات الداخلية المذكورة، وهي علاقتها بالمعركة الانتخابية في الولايات المتحدة: ترى هل هي مساهمة من القيادة التركية في محاولة رفع أسهم ترامب المتراجعة مقابل منافسه بايدن بعدما بات موعد الانتخابات على الأبواب؟ ذلك أن العلاقة المميزة بين ترامب وأردوغان تمنح هذا التفسير أسباباً موجبة، فلا يخفى على أحد أن ترامب هو مرشح أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فعلى رغم تذبذب الخط البياني في العلاقات بين البلدين، وعلى رغم بعض التصريحات الاستفزازية من ترامب بحق أردوغان، فقد حمى الأول الثاني في أكثر من مناسبة في مواجهة المؤسسة الأمريكية التي طالبت بمعاقبته، سواء بسبب صفقة الصواريخ الروسية أو بسبب التدخل العسكري في رأس العين وجوارها أو غيرها من أسباب التنافر. فإذا كانت صفقة التطبيع بين دولة الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، في جانب منها، حملة دعم قوية لترامب، يمكن اعتبار السجال التركي المتأخر حول تصريحات بايدن بمثابة «نصف حملة دعم» إضافية للرئيس الأمريكي المتمتع بدعم قوى خارجية متناقضة كالإمارات وتركيا وإسرائيل والسعودية.
بكر صدقي
القدس العربي