كثير من المشاركين في حرب الخليج الأولى التي دامت ثماني سنوات بين إيران والعراق وصادفت ذكرى انتهائها منذ 32 عاماً يوم الخميس الماضي، يرغبون في نسيان كل ما جرى. كان نزاعاً رهيباً ذهب ضحيته نصف مليون شخص على الأقل، واستخدم فيه الغاز السام على نطاق واسع لسنوات عدة، وللمرة الأولى منذ الحرب العالمية الأولى، كما أبيدت خلاله مجتمعات محلية بأكملها، الأكراد تحديداً، وتعرّض السجناء والمنشقون للتعذيب والقتل.
لكن النفور من هذه الفظائع ليس المبرر الوحيد لفقدان العالم ذاكرته في شأن مآل هذه الحرب، بل يكمن السبب في أن قلة من المشاركين في الحرب نالوا مبتغاهم منها، وإن فعلوا، فبفضل صدفة تاريخية لا يد لهم فيها، والأهم هو أن قلة تدرك أن حرب إيران والعراق كانت فاتحة سلسلة من النزاعات مدارها العراق والخليج، ورسمت معالم السياسة في عالمنا الحديث.
اجتاحت جيوش صدام حسين إيران الثورة بقيادة آية الله الخميني بتاريخ 22 سبتمبر (أيلول) 1980 في إطار هجوم اعتبره الرئيس العراقي بداية “حرب خاطفة”، لكن بدل أن يحرز الديكتاتور العراقي نصراً سريعاً، وجد نفسه متورطاً في حرب دامت ثماني سنوات، أسفرت عن مقتل 200 ألف عراقي و300 ألف إيراني على أقل تقدير.
ولم تنتهِ الحرب إلا حين وافقت إيران، التي باتت عرضة لهجمات متزايدة شنتها أميركا وحلفاؤها إضافة إلى العراق، على وقف إطلاق النار بوساطة الأمم المتحدة يوم 20 أغسطس (آب) 1988. وبعد أن تفوّق عليه خصومه وبدأ انسحابه من المعركة، أعلن الخميني أن الوقت حان “لتجرع كأس السمّ” وإنهاء الحرب.
خلّف الصراع أثراً بالغاً في الشرق الأوسط والعالم أجمع، لأنه مهد الطريق أمام غزو صدام حسين للكويت عام 1990، والاجتياح الأميركي للعراق في 2003، كما زاد من حدة المواجهة بين الإسلام السني والشيعي التي أصبحت اتجاهاً مهيمناً في السياسات الإقليمية.
وشهدت سنوات الحرب الأخيرة تحولاً شبه تام للولايات المتحدة إلى حليف عسكري كامل لصدام حسين، فشنّت الطائرات الأميركية غارات على ناقلات النفط الإيرانية في الخليج، وقصفت البحرية الأميركية المنشآت النفطية الإيرانية، وأبدى حلفاء صدام حسين لا مبالاة صادمة حين استخدم أسلحة الدمار الشامل على شكل غاز سام ضد الإيرانيين والأكراد.
لكن بعد مرور سنوات عدة على هذا الحدث، اعتُبر امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل (مع أنه لم يعد يمتلكها في هذه المرحلة) أمراً خطراً لدرجة أنه سوّغ فرض عقوبات اقتصادية قاسية للغاية على البلاد، تُوجت باجتياح العراق بقيادة أميركا في عام 2003.
لم يظهر على الولايات المتحدة وحلفائها أي حرج إزاء هذا النفاق في تغيير المواقف، بل تمكنوا من تغييرها عبر تجاهُل دورهم الخاص في الحرب العراقية – الإيرانية، أو التظاهر بأنه لم يكن سوى حدث هامشي في مسار التاريخ.
واستقبل صدام حسين قبول الإيرانيين بوقف إطلاق النار في العام 1988 على أنه نصر عظيم أحرزه بفضل ذكائه اللامع، وضخم نجاحاته لتتخطى حجم الإنجازات العراقية الفعلية بأشواط. وبعد أن صدّق الدعايات التي اختلقها حول النصر، بالغ في تضخيم القوة السياسية والعسكرية العراقية في مرحلة ما بعد الحرب، وأحد الأمثلة على هذا هو بناء نسخة عراقية ضخمة عن قوس النصر الفرنسي في بغداد، دُشنت عام 1989، وهي عبارة عن سيفين ضخمين متقاطعين يرفعهما ساعدان حديديان بطول 40 قدماً، فصّلا على شكل ساعدي صدام حسين. وأقام الجيش العراقي استعراضاً احتفالياً بالنصر تحت السيفين المتقاطعين اللذين ما زالا في مكانهما بعد مرور 14 عاماً على إعدام صدام حسين شنقاً في عام 2006.
لكن كان لغطرسة الزعيم العراقي ما برّرها بعض الشيء، فقد حولت الحرب العراق إلى قوة عسكرية رائدة في الخليج بعض الوقت، وبعد أن شنّ الحرب بجيش من عشرة أفواج، أنهاها بجيش مكون من 55 فوجاً و4 آلاف دبابة، وصواريخ يمكنها أن تصل إلى طهران أو تل أبيب، لكنه خاض في الوقت نفسه الحرب بالاستدانة والقروض، وأفضت الخلافات الغاضبة مع الدول العربية النفطية في شأن هذه الديون إلى اجتياح العراق للكويت عام 1990.
ورغم مطالبة إيران بتحقيق السلام حين قبلت وقف إطلاق النار الذي عرضته الأمم المتحدة، لكنها لم تكن منهزمة بشكل قاطع، بل على العكس حين اجتاح العراق إيران في العام 1980، فعل ذلك بدافع تحقيق مكاسب ميدانية رمزية، وضم أراض وإذلال الجمهورية الإسلامية الطرية العود، لكنه لم يحقق أياً من الهدفين.
أخطأ صدام حسين حين حسب أن فوضى الثورة شلت قبضة القوات العسكرية الإيرانية، فما حصل هو أن الحماسة الثورية عوضت عن عدم التنظيم العسكري ونقص التجهيزات، وقاتلت الوحدات الإيرانية حتى الموت دفاعاً عن مدينتيّ خورمشهر وعبادان القريبتين من البصرة في جنوب العراق، ولم يستطع العراق التوغل كثيراً داخل المنطقة. ثم دفعت عمليات الهجوم المضاد من الجانب الإيراني على امتداد السنتين اللاحقتين بالجيش العراقي خارج إيران، ومع حلول نهاية عام 1982 قدرت الاستخبارات الأميركية خسائر العراق في الأرواح بـ45 ألفاً، يقابلهم عدد مماثل من السجناء. وبالنسبة لدولة بلغ عدد سكانها في ذلك الوقت 15 مليوناً، شكلت هذه الحصيلة خسارة فادحة.
وبدأ آية الله الخميني والقيادة الإيرانية يحلمون بتصدير ثورتهم إلى الغرب فوق حراب جنودهم المظفرين، فقد ملأهم هم أيضاً شعور مبالغ فيه بالثقة، وطالبوا بتنحي صدام حسين عن زعامة العراق ثمناً للسلام.
وكان إمكان أن تحرز إيران نصراً كاملاً في غير محله وغير واقعي، فعدد سكان إيران فاق سكان العراق ثلاث مرات، بينما ثلثا العراقيين من المسلمين الشيعة. وفيما شكّل المسلمون السنة 80 في المئة تقريباً من ضباط الجيش العراقي، كانت غالبية عناصر الجيش من الشيعة. ولم يبدوا كثيراً من الحماسة لقتال أبناء طائفتهم من شيعة إيران خلال مراحل الحرب الأولى. وقال بعضهم لاحقاً إنهم أطلقوا النار في الهواء عمداً، وألقت كتائب عدة من الشيعة سلاحها واستسلمت، ولو ظل الاستياء الشيعي على هذا الحال لفازت إيران.
لكن ذلك لم يحدث قط، ربما لم يتحمس العراقيون الشيعة في شأن غزو إيران، لكن ذلك لا يعني أنهم أرادوا أن تغزو الأخيرة العراق. وبعد أن قطع الإيرانيون الحدود العراقية توقف الجنود العراقيون الشيعة عن الاستسلام وبدأوا قتالهم، وساد شعور متزايد بالتضامن بين العراقيين ولا سيّما في أعقاب الهجوم المفاجئ الذي شنّه الإيرانيون بهدف الاستيلاء على شبه جزيرة الفاو عام 1986. ويذكر نقيب شيعي في الجيش العراقي عارض الحرب في البداية ويدعى جعفر على أنه “حين احتلت إيران الفاو بدأ الجميع بالقتال، وهذا ردّ الفعل الطبيعي الذي أبدته المدن الشيعية كافة ضد الاجتياح الأجنبي”.
وثمة سبب قوي ثانٍ وراء عدم رجحان كفة إيران، وهو أن الولايات المتحدة كانت عازمة على ألا يفوزوا، فالإطاحة بالشاه على يد الخميني في العام 1979، وأخذ الإيرانيين للديبلوماسيين الأميركيين رهائن في طهران، شكلتا هزيمتين مذلتين لأميركا. ولم تكن واشنطن لترضى بفوز إيراني إضافي. ويعتقد البعض، وربما يخطئون الظن، أن الولايات المتحدة لعبت دوراً في إشعال فتيل الحرب عام 1980 بهدف معاقبة إيران.
وبدأت وكالة الاستخبارات المركزية CIA بتزويد بغداد بإحاطات استخباراتية منتظمة وصور أقمار صناعية عن المواقع الإيرانية تلافياً لوقوع هزيمة عراقية، وأزيل اسم العراق من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، مع أن الإرهابي المعروف أبو نضال كان مقيماً فيها، وأعادت السفارة الأميركية في بغداد فتح أبوابها عام 1984.
وحين أغارت الطائرات الحربية العراقية على ناقلات النفط الإيرانية في الخليج باستخدام صواريخ إيكزوسيت الفرنسية، ردّت إيران بضرب الناقلات الكويتية التي حملت النفط العراقي، وانضمت الولايات المتحدة إلى الجانب العراقي في ما عُرف باسم حرب الناقلات، بينما ضربت البحرية الأميركية المنشآت النفطية الإيرانية. وبلغ تدخلها ذروته حين قامت سفينتها الحربية USS Vincennes بإسقاط طائرة مدنية إيرانية متجهة إلى دبي عن طريق الخطأ في 3 يوليو (تموز) 1988، ما أسفر عن مقتل جميع ركابها البالغ عددهم 290 شخصاً.
وأقنع الزعماء السياسيون الإيرانيون آية الله الخميني أن الولايات المتحدة انضمت إلى الحرب مع العراقيين، وليس أمام إيران أي خيار سوى وقف القتال. وفي وسع هذه البلاد أن تزعم أنها وقفت شبه وحيدة في مواجهة العراق، بينما حظي صدام حسين بدعم معظم بلدان العالم. لكن الجيوش الإيرانية كانت تنسحب بالفعل حين قبلت بوقف إطلاق النار في النهاية، بينما صدام حسين لا يزال في سدة الحكم.
تملأ إيران اليوم مقابر كبيرة لقتلى الحرب التي شكلت تجربة مفصلية بالنسبة لكثير من الزعماء الإيرانيين الحاليين.
وعاش الإيرانيون تجربة غريبة من خلال إحرازهم مكاسب كثيرة حاربوا لأجلها بفضل أخطاء صدام حسين والتدخل الأميركي، فالهيمنة العراقية في الخليج لم تعمر طويلاً، إذ هزم صدام حسين في الكويت العام 1991 وأطيح به في العام 2003 على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة، وهذا ما أزاح من درب إيران أقوى وأبغض عدو إقليمي لها، ووضعها عرضياً في موقع القوة الإقليمية العظمى.
من حسنات وقف إطلاق النار بين العراق وإيران منذ 32 عاماً أنه أوقف القتل، لكن السلام لم يكتمل يوماً بعدها، وتمرّد العراقيون الأكراد في بداية الحرب، واستمر الفتك بهم حتى بعد انتهائها. وذهب ما لا يقل عن 182 ألف عراقي كردي ضحية حملة الإبادة الجماعية المعروفة بـ “الأنفال” التي أطلقها صدام حسين، ولحسن الحظ أنه بدد مكاسب فوزه الجزئي من خلال مبالغته بمداه، ولو كان رجلاً أقل غطرسة ونظر إلى وقف إطلاق النار في 20 أغسطس 1988 بعين أكثر واقعية، فلربما كان بقي في سدة الحكم حتى يومنا هذا.
باتريك كوبيرن
اندبندت عربي