وزير الخارجية القبرصي لم يلجأ إلى اللباقة الدبلوماسية المعتادة، أو لعله لم يتعود عليها إذا كان راغباً في استخدامها أصلاً؛ فقالها صراحة: “اتحاد 27 دولة عضو يتوجب أن يُعلي شأن القِيَم العالمية، والنظام العالمي الكوني المرتكز إلى قيم الاتحاد الأوروبي ومبادئه”.
في صياغة أخرى: الخلاف اليوناني/ القبرصي من جهة، والتركي من جهة ثانية، حول ترسيم الحدود البحرية شرق المتوسط، وبالتالي حُسْن اقتسام 122 ترليون متر مكعب من الغاز الطبيعي الدفين، ليس بالضرورة محكوماً بالقانون الدولي والاتفاقيات الناظمة؛ بل، هكذا بوضوح: بما تُمليه “قيم الاتحاد الأوروبي ومبادئه”.
كيف لا، وقد انخرطت فرنسا وإيطاليا في مناورات عسكرية مشتركة مع قبرص واليونان، واختارت الإدارة الأمريكية هذه البرهة تحديداً لكي ترفع حظر السلاح المفروض على نيقوسيا. هذا بافتراض أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي لن تدخل حلبة النزاع ليس من موقع هوية متوسطية فحسب، بل كذلك بوصفها مخفر الغرب المتقدم؛ وبافتراض أنّ الحلف الأطلسي لن ينقل التسخين، اللفظي حتى الساعة، إلى مستوى متقدم من الفعل.
غرب متحد ملموس، استعماري الماضي وإمبريالي الحاضر؛ ضدّ “شرق” متخيَّل، كما سيذكّرنا درس إدوارد سعيد الأهمّ؛ وما بين هذا وذاك ثمة مصالح حاسمة لا تشمل استخراج الغاز بما يوفّره من ثروات هائلة، فقط؛ بل ثمة، أيضاً، تلك النطاقات الحيوية العتيقة التي اقترنت على الدوام بهذا التلاطم البحري الفريد، بين الأبيض تارة والأسود طوراً، وما بينهما بحر إيجة ابن ملاحم التاريخ.
لم يكن غريباً، والحال هذه، أن تعود صحيفة “لوموند” القهقرى إلى مائة عام خلت، أي إلى 10 آب (أغسطس) 1920، فترى في سلوك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان محاولة ثأر متأخرة من معاهدة سيفر؛ التي أجبرت تركيا على التنازل عن جميع البلدان التي لا يقطنها ناطقون باللغة التركية، وكانت بمثابة ورقة نعي ختامية للسلطنة العثمانية. وسواء اتفق المرء أو اختلف مع هذا التأويل، فإنّ التاريخ يسجّل مقدار المهانة القومية التي انغرزت عميقاً في وجدان الأتراك جرّاء تلك المعاهدة، كما يستبطن التاريخ إياه أنّ مسعى أردوغان في استعراض العضلات شرق المتوسط لن يلقى هوى في نفوس الاتراك العثمانيين وحدهم، بل كذلك في صفوف غالبية الاتراك القوميين، تشددوا في مشاعرهم أم اعتدلوا.
وهكذا فإنّ تصريح وزير الخارجية القبرصي، حول “قيم ومبادئ الاتحاد الأوروبي”، يصبّ الزيت على نيران مشتعلة لتوّها؛ سبق أن زادت في أوارها مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدا وكأنّ خسران رهاناته على المشير الانقلابي الليبي خليفة حفتر لا يشفي غليله سوى انتصار قبرص واليونان على تركيا في شرق المتوسط، إذا وُضعت جانباً مصالح الطاقة التي تسيّر حسابات الإليزيه أيضاً. وليس خارج المعادلة ما تخترقه أنقرة، باضطراد، من بنيان خالت باريس أنه راسخ لصالحها؛ في الدول العربية شمال أفريقيا أوّلاً، ثمّ في السودان وموريتانيا ومالي والسنغال والنيجر ومعظم أفريقيا الوسطى…
وبمعزل عن نزوعات أردوغان السلطانية العثمانية، وطرائق الاستبداد الشرقي الذي يستمده من كلّ استفتاء تنتهي نتيجته لصالحه؛ فإنّ في جعبة الجرح القومي التركي ترسانة من المواقف التي تدعم هواجس الجموع، لجهة إخضاع ترليونات الغاز شرق المتوسط إلى استشراق جديد من طراز خاصّ، ركيزته استبعاد تركيا من النادي. وليس بعيداً في الزمن تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي (مكان تركيا ليس في أوروبا، بل في آسيا المسلمة)؛ أو المستشار النمساوي الأسبق ولفغانغ شوسل (بدء الاتحاد الاوروبي مفاوضات ضمّ مع تركيا “أمر يثير السخرية”)؛ أو الهولندي فريتس بولكشتين، المفوّض السابق في الاتحاد (إذا انضمت تركيا فسيكون تحرير فيينا من الحصار العثماني سنة 1683 قد ذهب هدراً)…
ولا عجب، غنيّ عن القول، أن تسود العقلية الاستشراقية في الاقتصاد كما في السياسة والاجتماع والثقافة، وفي عباب البحار كما في قيعان مكامن الغاز.
القدس العربي