في نقد المفكرين الكبار المفكرين الكبار من المعرفة ونبل التنوير ما يدهش وما يفيد في آن معاً. كما أنه يسهم في قتل مفهوم الصنمية البضاعية الفكرية، الواعية منها واللاواعية، والتي قد نعجب بها أحياناً، فنستلهمها، في بعض كتاباتنا ومجادلاتنا الساخنة والمتبادلة، في “نادي النخب”. وفي مكنة هذا النقد الناضج، والخصوصي، أن يحررنا من إنتاج الطاعة، وثقافة الطاعة، خصوصاً عندما نحوّل المعرفة إلى مجرد وظيفة لتشكيل الذات، وفق أنموذج، أو قالب أداتي، يمكّننا من “السيطرة” المُخادعة على الآخرين.
في هذا المضمار، ثمّة نقد المفكر الكبير هادي العلوي المفكر الكبير إدوارد سعيد، والعكس صحيح. وهو بالقطع نقد مسؤول، غير دعائي، ولا يستهدف البتة بلورة ذرائع مدويّة لتغطية إخفاقات شخصية غير مدويّة. فكل منهما، مثلاً، غير إيديولوجي، بالمعنى السطحي السائد في أذهان جهابذة جماعات السياسة، وأزلامهم من شطّار التصنيف الأبلق والسريع. وكلاهما كانا مشغولين في تأسيس معرفي جدّي وجديد، ومتمسكين أيضاً بسلطة المعرفة إزاء سلطتي القوة والمال. وكل منهما كان عدواً للانغلاق والتعميم، وكان مواطناً عالمياً وإنسانياً، انطلاقاً من مسؤولياته الوطنية، فلسطينياً وقومياً. وكل منهما مثّل قوة نقدية حضارية، هدفها إعطاء معنى غير مجرد للإنسان والحياة، في ليل هذا الانحطاط الطويل. كما أن كلاً منهما كان متصوفاً في الموسيقى على طريقته: إدوارد كان مولعاً بروائع فاغنر وبيتهوفن بانغماس تأملي عجيب. وكان هادي مخطوفاً بالأساطير المنبثّة من موسيقى الصيني هولينغ لون، علاوة على “أوبرا بكين” المتوارثة بأصواتها وأنغامها الساحرة منذ عقود وعقود.
يتناول هادي العلوي تجربة إدوارد سعيد مع الاستشراق في كتابه الفذ “الاستشراق”. ويرى، مثلاً (وبشكل عام)، أنه سابق لأوانه الكلام على صراع بين الاستشراق والمفكرين العرب. فهؤلاء انصاعوا في مدارس الاستشراق، وهم في جملتهم تلاميذ، أو مريدون للمستشرقين. ويرى العلوي أنه وجد جولات صراع مع الاستشراق في مواسم متفرقة، لعل أطولها التي خاضها الماركسي الكبير، حسين مروه، في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية” (يسمّيه العلوي سفر النزعات)، ولم يصل مع ذلك إلى حدّ إعلان الحرب، ثم القطيعة. فهذه كانت بانتظار الليبرالي، إدوارد سعيد، الذي أنجز مهمة كان على الماركسيين العرب إنجازها، من دون الليبراليين المنتمين للغرب.
في هذا المضمار، ثمّة نقد المفكر الكبير هادي العلوي المفكر الكبير إدوارد سعيد، والعكس صحيح. وهو بالقطع نقد مسؤول، غير دعائي، ولا يستهدف البتة بلورة ذرائع مدويّة لتغطية إخفاقات شخصية غير مدويّة. فكل منهما، مثلاً، غير إيديولوجي، بالمعنى السطحي السائد في أذهان جهابذة جماعات السياسة، وأزلامهم من شطّار التصنيف الأبلق والسريع. وكلاهما كانا مشغولين في تأسيس معرفي جدّي وجديد، ومتمسكين أيضاً بسلطة المعرفة إزاء سلطتي القوة والمال. وكل منهما كان عدواً للانغلاق والتعميم، وكان مواطناً عالمياً وإنسانياً، انطلاقاً من مسؤولياته الوطنية، فلسطينياً وقومياً. وكل منهما مثّل قوة نقدية حضارية، هدفها إعطاء معنى غير مجرد للإنسان والحياة، في ليل هذا الانحطاط الطويل. كما أن كلاً منهما كان متصوفاً في الموسيقى على طريقته: إدوارد كان مولعاً بروائع فاغنر وبيتهوفن بانغماس تأملي عجيب. وكان هادي مخطوفاً بالأساطير المنبثّة من موسيقى الصيني هولينغ لون، علاوة على “أوبرا بكين” المتوارثة بأصواتها وأنغامها الساحرة منذ عقود وعقود.
يتناول هادي العلوي تجربة إدوارد سعيد مع الاستشراق في كتابه الفذ “الاستشراق”. ويرى، مثلاً (وبشكل عام)، أنه سابق لأوانه الكلام على صراع بين الاستشراق والمفكرين العرب. فهؤلاء انصاعوا في مدارس الاستشراق، وهم في جملتهم تلاميذ، أو مريدون للمستشرقين. ويرى العلوي أنه وجد جولات صراع مع الاستشراق في مواسم متفرقة، لعل أطولها التي خاضها الماركسي الكبير، حسين مروه، في كتابه “النزعات المادية في الفلسفة العربية – الإسلامية” (يسمّيه العلوي سفر النزعات)، ولم يصل مع ذلك إلى حدّ إعلان الحرب، ثم القطيعة. فهذه كانت بانتظار الليبرالي، إدوارد سعيد، الذي أنجز مهمة كان على الماركسيين العرب إنجازها، من دون الليبراليين المنتمين للغرب.
على أن حرب إدوارد سعيد على ضراوتها مع حقائق الاستشراق لم تنتج، في رأي هادي العلوي، مقابلها الإيديولوجي. طبع كتاب سعيد، مثلاً، بالعربية مرتين، ووزع توزيعاً جيداً. لكن علاقة المثقف العربي بالاستشراق بقيت ماثلة، كما هي، ولم تتزعزع. من هنا، زعم العلوي أن كتاب “الاستشراق” أخفق في الوصول إلى هدفه الكبير. ويرجع ذلك، والكلام للعلوي، أولاً، إلى رسوخ التقاليد الاستشراقية في الوعي الثقافي العربي، وهو لا يزال وعياً طرفياً (كولونيالياً) يدفع في اتجاه الغربنة، ويتميز بنزوع كوزموبوليتي نحو الغرب. وللاستشراق هيبة متجذّرة لدى المثقفين العرب، يصعب انتزاعها بكتاب، مهما بلغت جدّيته وصدقيته.
وثانياً، يرجع إلى الكتاب عينه، وهو عمل علمي ذو أهمية ساطعة، ويتمتع بصدقية كبيرة في معظم استنتاجاته؛ إلا أن دائرة بحثه كانت ضيّقة، بسبب اقتصاره على دراسة الاستشراق، من خلال قراءات المستشرقين كمختصّين في تاريخ الشرق. والاستشراق عندما يؤخذ ظاهرة إيديولوجية، لا يتحدّد بالمستشرقين وأعمالهم ومعاهدهم، أو أقسامهم المختصّة في الجامعات، بل هو علم التاريخ الغربي نفسه، القائم على العرقية الأورو – مركزية في تناوله تاريخ العالم. والمنهجية الاستشراقية، في هذا النطاق، هي قطاع عمل مكرّس مهنياً للشرق، من ضمن الدائرة العامة لهذا العلم، ولا تستقل عنه، إلا من حيث حقل العمل المخصص لها.
وهادي العلوي المتأثر بفلسفة الصين، ومعها فلسفة الهند، وقد أقام عشرين عاماً متواصلة في بلاد كونفوشيوس ولاوتسو، مدرّساً اللغة العربية في معاهدها وجامعاتها، ومتضلعاً من لغتها، وفكرها القديم والحديث، كان يتمنى لإدوارد سعيد أن يكون مطّلعاً، وبعمق حيوي، على هذا التراث الشرقي العريق؛ إذ ذاك يكون في إمكان سعيد التحرّر، أكثر فأكثر، من النزعة الكوزموبوليتية التي تتجه بالمفكر العربي للاندماج في المتروبول الغربي.
ولم يعد جائزاً (في نظر العلوي) للمفكر العربي أن يبقى جاهلاً بمعرفة فلسفةٍ، عاشت قرابة ألفي عام، خصوصاً أن مصادرها باتت متوافرة ببعض اللغات الحيّة التي يعرفها بالتأكيد المفكرون العرب الحقيقيون أيّما معرفة.
من جهته، إدوارد سعيد، عندما فاتحته بأمر هادي العلوي معه (التقيته في دبي على هامش تسلّمه جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في العام 1997)، قال لي إنه معجب جداً بهذا الفيلسوف، والمترهبن حقيقة بـ “المعرفة الخالصة”، والمحاط بنطاق مُحكم من الجدّية البحثية والنقدية، في الخطابين المعرفيين الكبيرين (وإنْ بمنهج مختلف لكل منهما) في الغرب والشرق على السواء. وأردف سعيد يخبرني أن كتب هادي العلوي، مثل: “الاغتيال السياسي في الإسلام” و”شخصيات غير قلقة في الإسلام”، و”المستطرف الصيني” باتت متداولة وبقوة في المكتبات العربية في الولايات المتحدة. وإنه (أي إدوارد) كان يتمنّى لهادي العلوي لو عاش كذلك شطراً طويلاً من حياته في الغرب، لدعم مقولاته النقدية والفلسفية أكثر.. وزادها عمقاً وجوهرانية.
وأستدرك فأقول، كأنني في الكاتب، أو المتفلسف، في كل من هادي العلوي وإدوارد سعيد، مقيم الآن في شرفة خفائه السماوي المطلّة على الجميع، بحضور معرفي نقي، وواع لهذا الحضور.
أخيراً، ثمة رسالة طريفة وصارخة بواقعيتها، حمّلني إياها هادي العلوي، في لقاء يتيم لي معه في دمشق، في ربيع العام 1994، وأوصاني بنقلها إلى إدوارد سعيد. قال “بلّغه أنني لا أحبّذ نُطق حرف “د” في آخر اسمه إدوارد، وسأصرّ على لفظ اسمه: إدوار فقط”.. ولمّا سألته لماذا؟ أجابني:”درءاً لمزيد من العجمة في اسمه السكسوني، والذي يعني بالعربية: “حارس السعادة” أو “حارس الازدهار والرخاء”. نقلت الرسالة / الأمانة بعدها بسنتين لإدوارد سعيد، في أثناء زيارة صيفية له إلى بيروت. فاكتفى بالقول، وهو يبتسم ابتسامة محبّة وصافية: “معه حق. لكن، كان عليه أن يسأل والدي وديع عن ذلك”.
وثانياً، يرجع إلى الكتاب عينه، وهو عمل علمي ذو أهمية ساطعة، ويتمتع بصدقية كبيرة في معظم استنتاجاته؛ إلا أن دائرة بحثه كانت ضيّقة، بسبب اقتصاره على دراسة الاستشراق، من خلال قراءات المستشرقين كمختصّين في تاريخ الشرق. والاستشراق عندما يؤخذ ظاهرة إيديولوجية، لا يتحدّد بالمستشرقين وأعمالهم ومعاهدهم، أو أقسامهم المختصّة في الجامعات، بل هو علم التاريخ الغربي نفسه، القائم على العرقية الأورو – مركزية في تناوله تاريخ العالم. والمنهجية الاستشراقية، في هذا النطاق، هي قطاع عمل مكرّس مهنياً للشرق، من ضمن الدائرة العامة لهذا العلم، ولا تستقل عنه، إلا من حيث حقل العمل المخصص لها.
وهادي العلوي المتأثر بفلسفة الصين، ومعها فلسفة الهند، وقد أقام عشرين عاماً متواصلة في بلاد كونفوشيوس ولاوتسو، مدرّساً اللغة العربية في معاهدها وجامعاتها، ومتضلعاً من لغتها، وفكرها القديم والحديث، كان يتمنى لإدوارد سعيد أن يكون مطّلعاً، وبعمق حيوي، على هذا التراث الشرقي العريق؛ إذ ذاك يكون في إمكان سعيد التحرّر، أكثر فأكثر، من النزعة الكوزموبوليتية التي تتجه بالمفكر العربي للاندماج في المتروبول الغربي.
ولم يعد جائزاً (في نظر العلوي) للمفكر العربي أن يبقى جاهلاً بمعرفة فلسفةٍ، عاشت قرابة ألفي عام، خصوصاً أن مصادرها باتت متوافرة ببعض اللغات الحيّة التي يعرفها بالتأكيد المفكرون العرب الحقيقيون أيّما معرفة.
من جهته، إدوارد سعيد، عندما فاتحته بأمر هادي العلوي معه (التقيته في دبي على هامش تسلّمه جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في العام 1997)، قال لي إنه معجب جداً بهذا الفيلسوف، والمترهبن حقيقة بـ “المعرفة الخالصة”، والمحاط بنطاق مُحكم من الجدّية البحثية والنقدية، في الخطابين المعرفيين الكبيرين (وإنْ بمنهج مختلف لكل منهما) في الغرب والشرق على السواء. وأردف سعيد يخبرني أن كتب هادي العلوي، مثل: “الاغتيال السياسي في الإسلام” و”شخصيات غير قلقة في الإسلام”، و”المستطرف الصيني” باتت متداولة وبقوة في المكتبات العربية في الولايات المتحدة. وإنه (أي إدوارد) كان يتمنّى لهادي العلوي لو عاش كذلك شطراً طويلاً من حياته في الغرب، لدعم مقولاته النقدية والفلسفية أكثر.. وزادها عمقاً وجوهرانية.
وأستدرك فأقول، كأنني في الكاتب، أو المتفلسف، في كل من هادي العلوي وإدوارد سعيد، مقيم الآن في شرفة خفائه السماوي المطلّة على الجميع، بحضور معرفي نقي، وواع لهذا الحضور.
أخيراً، ثمة رسالة طريفة وصارخة بواقعيتها، حمّلني إياها هادي العلوي، في لقاء يتيم لي معه في دمشق، في ربيع العام 1994، وأوصاني بنقلها إلى إدوارد سعيد. قال “بلّغه أنني لا أحبّذ نُطق حرف “د” في آخر اسمه إدوارد، وسأصرّ على لفظ اسمه: إدوار فقط”.. ولمّا سألته لماذا؟ أجابني:”درءاً لمزيد من العجمة في اسمه السكسوني، والذي يعني بالعربية: “حارس السعادة” أو “حارس الازدهار والرخاء”. نقلت الرسالة / الأمانة بعدها بسنتين لإدوارد سعيد، في أثناء زيارة صيفية له إلى بيروت. فاكتفى بالقول، وهو يبتسم ابتسامة محبّة وصافية: “معه حق. لكن، كان عليه أن يسأل والدي وديع عن ذلك”.
أحمد فرحات
صحيفة العربي الجديد