فى مثل هذا الشهر منذ سبعين عاما انتهت الحرب العالمية الثانية.. بالرغم من أن كل الحروب ـ حتى العالمية منها ـ تنتهى، إلا أن مايميز نهاية هذا الحرب فى أغسطس 1945 هى الطريقة الاستثنائية التى انتهت بها، ثم الحديث عن أننا بدأنا نظاما عالميا جديدا بالرغم من أن ألمانيا شهدت انتحار قائدها هتلر ثم استسلمت تماما فى شهر مايو 1945، إلا أن بعض المؤرخين يرتكبون خطأ جسيما عندما يؤرخون ذلك الشهر على أنه نهاية الحرب.
مصدر هذا الخطأ أن هذه الحرب انتهت على المسرح الأوروبي، ولكنها استمرت ضد حليفة ألمانيا الآسيوية: اليابان، والتى احتلت كوريا وأجزاء كبيرة من الصين. كانت اليابان القوة العظمى والمماثل الآسيوى لألمانيا النازية فى أوروبا، بل إن طيرانها قام بهذا الهجوم المفاجىء على أمريكا ونجح فى تدمير بيرل هاربر فى 1941.
استسلام ألمانيا إذن أنهى الحرب الأوروبية فقط بينما أعلن القادة اليابانيون أنهم مستمرون فى الحرب ولو لمائة عام، ولكنهم اضطروا إلى تغيير رأيهم فى أغسطس وأعلنوا استسلام اليابان والشعور بالحسرة والمهانة يملأ قلوبهم، فمعظم الشعوب الشرقية مستعدة للدفاع عما تعتقده أنه الشرف والكرامة مهما كان الثمن المادى المطلوب ما الذى جعل اليابان إذن تغير رأيها دون تردد ويقوم الإمبراطور نفسه بإعلان الاستسلام وقبول شروط أعدائه؟ الإجابة باختصار: السلاح النووى.
لاشك أن الكثيرين سمعوا عن هيروشيما ونجازاكى، المدينتين اليابانيتين اللتين دخلتا التاريخ لأنهما كانتا أول مسرح يختبر الأسلحة النووية فى بداياتها. ففى 6 أغسطس سنة 1945 أسقطت طائرة أمريكية عملاقة القنبلة الذرية. الأولى على هيروشيما، وأردف الرئيس الأمريكى ترومان هذا العمل المدمر بإنذار بالاستسلام الفورى دون أية شروط وإلا سترى اليابان «سيلا» من التدمير لم تره من قبل.
وفى غياب أى رد فعل من طوكيو، تم إسقاط القنبلة الذرية الثانية، هذه المرة على مدينة ناجازاكي. تم تدمير هاتين المدينتين وفى خلال شهرين كانت حصيلة القتلى 90000 ـ 146000 فى هيروشيما و 30000 ـ 80000 فى نجازاكي. لم يكن امام اليابان بعد القنبلة الثانية إلا الاستسلام الفورى والاحتلال كما نعرف انتشرت الأسلحة النووية بعد ذلك، وتم كسر احتكار أمريكا لهذا السلاح ذى القتل الجماعى الرهيب، فقد فجر الاتحاد السوفيتى قنبلته فى سنة 1949، ثم تبعته بريطانيا ثم فرنسا، ثم الصين، ثم الهند، ثم باكستان، وبلاد أخرى مثل إسرائيل أو كوريا الشمالية وغيرها فى الطريق مثل إيران.
بعد 70 عاما، السؤال والذى لايزال يشغل الكثيرين هو الآثار السياسية والمعنوية لمثل هذا العمل المدمر. فالبعض يؤكد أن القنبلة الذرية انهت الحرب بسرعة وأنقذت الكثيرين ـ بما فيهم فى اليابان ـ من تمديد فترة المعاناة، أى أن القنبلة الذرية كانت مثل الموت بالسكتة القلبية بدلا من الموت البطيء نتيجة مرض عضال. ولكن هذه المقولة تتجاهل الآثار المترتبة على سكان المدينتين الذين فروا من هذا الموت السريع ولكن لايزالون يعانون من أمراض متعددة وتهالك فى الاعضاء نتيجة تعرضهم للاشعاعات الذرية، وبالرغم من الجدال حول هذا الموضوع وإرجاع بعض المعاناة للشيخوخة أو أمراض أخري. فالغالبية من الاراء تعتقد الآن أن الآثار الضارة للإشعاعات النووية تمتد اكثر وأطول على الأحياء فى المناطق التى عانت من هذا السلاح الوحشى.
النقطة الأساسية الأخرى التى يثيرها معظم خبراء العلاقات الدولية هو أن امتلاك الأسلحة النووية أسهم بقدر كبير فى الاستقرار الدولى بمعنى اختفاء الحرب بين الدول الكبرى فالحرب العالمية الثانية جاءت بعد 21 عاما من انتهاء الحرب العالمية الأولى، بينما نحن بعد 70 عاما من انتهاء الحرب العالمية الثانية فى سنة 1945، لم نشهد حربا أخرى بين الدول الكبرى، وذلك رغم وجود الحرب الباردة بفترات التوتر والأزمات الشديدة والتى أدت فى الماضى إلى صدام مسلح بين الدول الكبرى، وحسب هذا الرأى فإن غياب الحرب يرجع إلى وجود الأسلحة النووية والخوف من الدمار الشامل الذى تستطيع كل قوة كبرى فرضها على الخصم، ويستشهد هؤلاء بأزمة الصواريخ فى كوبا فى سنة 1961، والتى فرضت على كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى الوصول إلى حل وسط وحتى إنشاء خط تليفونى بينهما لتجنب مثل هذه الأزمة فى المستقبل وإبعاد شبح الحرب أو حتى سوء تفاهم هذا الرأى له وجاهته فعلا.
وقد دافع عنه بقوة وزير الخارجية الأمريكى السابق هنرى كيسنجر فى كتابه الأول فى سنة 1957 والذى توج شهرته العالمية كأستاذ للعلاقات الدولية وقبل أن ينخرط مباشرة فى السياسة. ولكن هذا الرأى يقتصر فى مفهومه للاستقرار العالمى على التعريف الضيق جدا لانه الحرب المباشرة بين الدول الكبري، وفى الواقع فإن الـ70 عاما شهدت الكثير مما نسميه الحرب بالوكالة: من كوريا فى الخمسينيات، وفيتنام فى الستينيات والسبعينيات، بل تزداد وتيرة مايسمى الحروب الأهلية الآن بتدخل غير مباشر او مباشر من الدول الكبرى، كما هو الحال فى العراق، سوريا، اليمن أو ليبيا.
ماهو إذن الاستنساج النهائى أو الخلاصة بالنسبة لأسلحة الدمار الشامل هذه، خاصة فيما يحدث مع إيران وتفكير بعض دول الخليج فى الحصول على السلاح النووي؟ هى فعلا حققت ميزان الرعب بين الدول النووية، وقد يكون هذا نوعا من الأمن، ولكنه ليس بالتأكيد الأمان. بل ان تكاليف هذا الأمن النووى اكثر بكثير من فائدته، ليس فقط ماليا بدلا من استعمال هذه الأموال فى التنمية، بل من ناحية المخاطرة فقد يحدث خطأ ما يؤدى إلى صدام نووى أو قد تستطيع بعض الجماعات الإرهابية الحصول عليه وابتزاز العالم. ليس هذا هو الاستقرار الدولى المأمول.
د.بهجت قرني
صحيفة الأهرام المصرية