الاستشراق ومآلاته الإرهاب في التصور الأمريكي

الاستشراق ومآلاته الإرهاب في التصور الأمريكي

693

في كتابه المهم “الاستشراق”، حاول المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد أن يقدم تحليلا نقديا لما سماه بالخطاب الاستشراقي. وقد وصف هذا الخطاب بأنه خطاب ارتبط بالاستعمار، وفيه تتجذر التصورات الاستشراقية عن الشرق. ولذلك ليس غريبا أن يوصف سعيد بفيلسوف الإرهاب، فالرجل بكل بساطة زلزل البنية المعرفية الغربية لينقده بنفس الآليات التي نقد بها المستشرقون الشرق وتقاليده وحضارته. بدا الرجل شبيها بمصطفى سعيد بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”.

ومن هذا المنطلق خرجت دراسات عديدة تتناول كيف يقوم الغرب، عبر تصوراته المركزية، بتأسيس مصالحه عبر خطاب استعماري مضاد للبلاد التي قام الغرب باستعمارها. وقد حاول تزتيفان تودروف في كتابه “فتح أمريكا” أن يكشف هو الآخر عن التصورات الاستشراقية المغلوطة عن الهنود الحمر، عبر حفر تاريخي في جذور نشوء الولايات المتحدة الأمريكية.

هذه الجهود المعرفية المتميزة دفعت لتيار كامل من الدراسات في مجالات متنوعة للقيام بمراجعة نقدية للتصورات المنحازة ضد أبناء البلدان التي خضعت للاستعمار الأمريكي والأوربي. وأجريت في الأنثربولوجيا وعلم الاجتماع والتاريخ والسياسة. ولقد أطلق على هذه الدراسات اصطلاح “دراسات ما بعد الاستعمار”.

تعمل نظرية ما بعد الاستعمار على فضح الإيديولوجيات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التفكيك التي تسلح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها المتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر اهتمام ذي صلة في فكر ما بعد الاستعمار هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. ويتضح من منظور عالم ما بعد الاستعمار أن أعمال الفكر الكبرى في غرب أوروبا والثقافة الأمريكية قد هيمنت على الفلسفة والنظرية النقدية، وكذلك على أعمال الأدب في جزء واسع من أنحاء العالم، ولا سيما تلك المناطق التي كانت سابقا تحت الحكم الاستعماري. إن مفهوم دريدا عن الميثولوجيا البيضاء، الذي حاول أن يفرض نفسه على العالم بأسره، قد قدم الدعم لهجوم ما بعد الاستعمار على هيمنة الإيديولوجيات الغربية. فـنظرية ما بعد الاستعمار هي  في الحقيقة قراءة للفكر الغربي في تعامله مع الشرق، من خلال مقاربة نقدية بأبعادها الثقافية والسياسية والتاريخية. وبتعبير آخر، تحلل هذه النظرية الخطاب الاستعماري في جميع مكوناته الذهنية والمنهجية والمقصدية تفكيكا وتركيبا وتقويضا، بغية استكشاف الأنساق الثقافية المؤسساتية المضمرة التي تتحكم في هذا الخطاب المركزي.([1])

الاستعمار والهوية البديلة

لقد استطاعت بعض الدراسات أن تكشف أن ترسم بدقة حدود العلاقة بين المستعمر والدول المستعمرة، عبر النظر في الحياة اليومية، وفي تضاريس السياسة العامة كذلك. ولننظر للحالة الجنوب أفريقية، وكيف كان الأفارقة يقاومون في حياتهم اليومية التحيز الأعمى ضد السود الذي انتهجه البيض. كيف استطاعوا أن ينشئوا خطابا وحياة مستقلة تخص السود، مكنت لما سمِّي فيما بعد بالقومية الأفريقية. استطاع الأفارقة الذين تربوا وتعلموا في البلدان الأوربية أن يعيدوا قراءة تراثهم وتقاليدهم الوطنية قراءة مغايرة في إطار مواجهة حضارية مع الغرب، ما يساعد في تشكيل الهوية الإفريقية. هذه الهوية هي البديل الحي لمواجهة البديل المقترح عبر ثقافة الآخر الأوربي.

وقد كانت القومية العربية هي الأخرى نتاج هذا الصراع الحضاري بين ثقافتين: ثقافة الشرق مقابل ثقافة الغرب. ولكن الأنتلجنسيا العربية استطاعت أن تدرك أن بناء الهوية القومية بعيدا عن النقد الحقيقي للتقاليد والثقافة المحلية، هو في الواقع يؤدي للوقوع في أحضان الماضي. ومن جهة أخرى فبناء مفهوم الهوية القومية، بمعزل عن الهجنة هو في الواقع انتفاء للتعدد وتأسيس لمقاومة هشة، ومحاكاة لمركزية المستعمر. ومن ثم لا بناء لهوية قومية بعيدا عن الفهم التعددي للهوية كجماع لهويات متنوعة، جماع قابل للتجدد.

الإرهاب: هل هو مفهوم استعماري

ويمثل موضوع الإرهاب واحدا من الموضوعات الهامة التي نستطيع من خلالها أن نبين كيف يتغلغل الخطاب الإستعماري في الدراسات العلمية التي تتناول بالتحليل والدراسة معنى الإرهاب، وأشكاله، وفاعليه، وأهدافه، وإستراتيجيات مواجهته، وعلامات ومؤشرات وجوده.

لقد سبق وأن قام إدوارد سعيد بكتابة مقال بعنوان “إنهم يسمون المقاومة إرهابا”، وهو دليل على ما أعنيه هنا بالدلالة الاستعمارية للإرهاب في العلوم الاجتماعية الأمريكية. إن الإرهاب برأيه له أصول في سياسات المستعمرين. فقد استخدم الفرنسيون الكلمة لوصف كل شيء يقوم به الجزائريون لمقاومة الاحتلال الذي بدأ عام 1830 وانتهى عام 1962. كذلك قام البريطانيون باستعمالها في بورما وماليزيا. فالإرهاب هو كل شيء يحول دون ما نقوم به. ولأن الولايات المتحدة لديها كما تتدعي مصالح في كافة أرجاء المعمورة، فلها أن تستخدم هذه المفردة اللعينة لوصف ما يحول دون سيطرتها وهيمنتها ونهبها للشعوب.

لقد وصل الحال إلى حد وصف كل حركة مقاومة للعولمة بأنها حركة إرهابية. فالحركات التي تنشأ ضد البطالة وضياع الموارد الطبيعية والحرمان، هي بحسب هذا التصور الاستعماري حركات إرهابية، تهدد الاستقرار.

والفريد في هذه المقالة المقارنة التي يقيمها ادوارد سعيد بين السياسة التركية والسياسة الإسرائيلية. والواقع أننا نرى هذه السياسة حتى اللحظة الراهنة. فكلا الدولتان يخفيان المعرفة ويقمعان أي حديث يتناول المقموعين من جهتهما. فالأتراك لا يريدون الاعتراف بما قاموا في حق الأرمن بدايات القرن العشرين. ويضرب مثلا على عملية القمع المعرفي بما قامت به الإذاعة الإسرائيلية من منع أحد البرامج التي تتناول القضية الأرمينية لأنه يستخدم مفردات “هولوكوست”، و”إبادة جماعية”، الكلمات التي استعملها اليهود لوصف ما حدث لهم في ظل حكم النازي. هذا القمع المعرفي هو جزء من سياسة إسرائيلية تستهدف ليس وقف ومن المعرفة عن الناس، بل بناء ذاكرة إنسانية حول حادث المحرقة، بحيث لا ينافسه حادث آخر.

وربما لو عاش ادوارد سعيد لفترتنا الحالية لاستطاع أن يوجه أنظارنا إلى التلاعب السياسة بمفردة الإرهاب لوصف قوى معارضة متعددة عبر العالم، وبالتحديد في تركيا. فالنظام الحاكم في تركيا استهدف تغيير النظام السياسي الحالي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي لكن وجود الأكراد قد حال دون ذلك. فما العمل أمام هؤلاء الأكراد الذين استطاع حزبهم أن يحصد نسبة لا يستهان بها في الانتخابات النيابية، مما جعل موقف الحزب الحاكم في حرج، ما العمل سوى أن يكون حزب العمال الكردستاني حزبا إرهابيا، ما العمل سوى بناء أسطورة “الإرهاب الكردستاني”، وهو ما أسفر عنه على الفور في الانتخابات التالية.

ولعلنا نستطيع أن نجد هذه الرؤية أوضح ما تكون عندما يعالج الباحثون الأمريكيون قضية الإرهاب في المنطقة العربية. ففي دراسة جاءت تحت عنوان “ما العوامل التي تدفع الشباب للتطرف العنيف”، يتجلى هذا التصور الاستعماري للإرهاب. الدراسة من إصدارات مؤسسة راند الأمريكية، ومن إعداد فريق من الباحثين.

تهدف هذه الدراسة إلى بحث العوامل التي تؤسس للسلمية في الضفة الغربية بفلسطين. وقد حددت هذه العوامل في : الخوف من عواقب العنف، عدم جدوى استخدام العنف، وعدم وجود علاقات قرابية بالمتطرفين. واعتمدت الدراسة على جلب معلوماتها من خلال المقابلات مع سياسيين وغير سياسيين، وعبر مسح بالعينة على شباب يعيشون في الضفة الغربية.

وبطبيعة الحال حاول الباحثون بكل الطرق اخفاء أي تناول تاريخي لمنطقة البحث : الضفة الغربية. لا يوجد أي سرد تاريخي يتعلق بالمنطقة، لا حديث عن تطور تاريخ العلاقة بين العرب والإسرائيلين، وكيف احتلت أرض فلسطين. حتى على مستوى التحليلات لا يوجد عودة لوقائع تاريخية، جميعها يستند إلى دراسات سابقة أجريت في بلدان ليست على غرار الحالة الفلسطينية. فكيف يمكن المقارنة بين حالة دولة مستقرة كإيطاليا لديها حكومة منتخبة، ونظام دستوري، لديه شرعية، وحالة دولة محتلة كفلسطين. كيف يمكن نقل مصطلح استخدم في سياق تاريخي معين لاستعماله بنفس المعاني لوصف قوى مقاومة لاحتلال، قوى ضعيفة، تستخدم كل الوسائل دون تمييز، تستخدم العنف والسلمية معا، لوقف عمليات التخريب المتعمدة من المحتل. وليس لديها وسائل السلمية التي تعوزها للقيام بعمليات التفاوض الفعلي المؤثر، هل لدى الفلسطينيين دولة لها حكومة يمكن العودة لها لوقف العنف، هل هذه الحكومة معترف بها عالميا، لتمتلك الحق في الوكالة عن الشعب الفلسطيني أمام العالم، بحيث يمكن وصف اعتداءات الأفراد باعتبارها أعمالا إرهابية يمارسها أفراد خارج نطاق القانون. إن شيئا من هذا غير موجود فلماذا تحاول هذه الدراسات وصف المقاومة بأنها عمل إرهابي، طالما تستهدف المدنيين.

لقد لاحظ الباحثون أن أبناء المقاومة الفلسطينية من حركة فتح أو حركة حماس لا يميزون بين أشكال المقاومة، أي لا يميزون بين المقاومة العنيفة والمقاومة السلمية، فقد مارسوا الشكلين معا، وأدركوا مع الوقت أن هذين الشكلين أدوات ناجعة في لحظات تاريخية، ويمكن استعمالهما سياسيا لفرض الإرداة، لكن فريق العمل البحثي لا يقفان أمام هذا النوع من العبارات المربكة، كيف يمكن الجمع بين نوعين المقاومة معا، بين السلمية والعنف، كيف يمكن في هذه الحالة الهجينة وصف المقاومة الفلسطينية بأنها عمل إرهابي، بلغة أخرى كيف يمكن لنا كباحثين وصف الفلسطيني الذي يشارك في مظاهرات سلمية، ويقوم بتفجير نفسه أو يحمل السلاح، كيف نصفه بالضبط، وهو يمارس عملا هجينا، إلا إذا قمنا بمراجعة تصوراتنا عن الإرهاب، وعما يلتبسه من معان، وكيف تستعمله السلطات لمواجهة معارضيها، والمقاومين لسلطتها الغاشمة.

   وعلى فرض أن الباحثيين الأمريكيين يعترفون بالسلطة الإسرائيلية، وهو أمر واضح، فكيف لهم ألا يصفوا أفعال السلطة الإسرائيلية أعمالا إرهابيا تستهدف آلاف المدنيين الأبرياء، مصحوبة بالتستر على الجريمة، التي تمر دون عقاب، بينما يمر الرد الفلسطيني بالجلبة الإعلامية التي تصور الجاني في صورة الضحية. أليس إرهاب الدولة هو المؤسس لإرهاب الأفراد؟. أليس قيام الدولة بممارسة كافة أشكال العنف الممتدة من التجويع والحصار والحرمان من الخدمات الاجتماعية والتشويه وإهدار الكرامة الإنسانية، والسب المتكرر للمواطنين، أليست هذه دعاوى كافية للرد العنيف بما يتساوى مع عنف النظام. شيء من هذا غير مذكور.

المركز العربي للبحوث والدراسات