في خضم الأزمة المالية التي يعانيها العراق نتيجة تفشي وباء كورونا وانخفاض أسعار النفط، تعتزم الحكومة العراقية إقرار موازنة للأشهر المتبقية من العام الحالي 2020، للشروع بإتمام موازنة 2021، في وقت تتصاعد فيه الخلافات حول بنودها وقانونية الاقتراض المضمن فيها، فضلاً عن الخلافات بين اللجنة المالية في البرلمان العراقي ووزارة المالية حول عدم إيفاء الوزارة بتعهداتها في شأن تقديم ورقة للإصلاح المالي كشرط سابق لإمرار قانون الاقتراض.
وتبرر اللجنة المالية في البرلمان العراقي الخلافات بينها وبين الوزارة بعدم تقديم الأخيرة ورقة إصلاحات مالية كانت شرطاً للتصويت على قانون الاقتراض، في حين تعزو اللجنة رغبة الحكومة في إقرار موازنة لما تبقى من 2020 إلى حاجتها إلى “دين يبلغ حوالى 20 مليار دولار”.
ويقول النائب عضو اللجنة المالية أحمد حمه رشيد، “الخلافات تعود إلى فترة حكم عادل عبد المهدي، إذ أعدت موازنة 2019 ضمن الآليات السابقة في كونها موازنة بنود، في حين أن المنهاج الوزاري كان ينص على أن تكون موازنة برامج اقتصادية وأداء”، ويعتقد أن “مشروع الموازنة المرسل إلى مجلس الوزراء نسخة معدلة عن موازنة 2020 لحكومة عبد المهدي التي لم تقر. وهذا هو سبب الخلاف الرئيس”.
ويكشف رشيد عن سؤال وجهه إلى وزير المالية مضمونه أن “الموازنة تشتمل على مخالفة لقانون الإدارة المالية، في ألا يكون العجز المتراكم في الموازنة أكثر من ثلاثة في المئة من الناتج الإجمالي المحلي. في حين أنه أكثر من ذلك بـ 10 أضعاف”، ويبين أن الوزير أجاب بأن “العجز خارج عن إرادة الحكومة”.
ويضيف، “أما الخلاف الآخر فيتعلق بقانون الاقتراض واشتراطات اللجنة على الحكومة إعداد ورقة إصلاح مالي خلال 60 يوماً من إمرار القانون، لكنها لم تفعل”، ويلفت إلى أن “اللجنة وجهت سؤالاً شفهياً إلى الوزير لتبيان أسباب عدم إرسال الإصلاحات، وأجاب الوزير وأقنعنا بمبرراته”، مضيفاً “وزير المالية وعد تقديم ورقة الإصلاح خلال أسابيع قليلة، ونحن في انتظار إيفاء الحكومة بتلك التعهدات”، ويعزو رشيد سبب إرسال الحكومة موازنة لما تبقى من السنة المالية إلى “حاجتها إلى اقتراض أكثر من 20 مليار دولار”.
وعن تأثر احتياطيات المركزي من الاقتراض المستمر نتيجة الأزمة المالية، يشير رشيد إلى أن “القرض الداخلي بلغ 15 تريليون دينار (12.5 مليار دولار)، كلها من احتياطيات المركزي، فضلاً عن الحاجة إلى 15 تريليون دينار أخرى على الأقل”.
اتهامات متبادلة
وعلى الرغم من تبرير اللجنة المالية خلافاتها مع الوزارة على أنها نتيجة عدم الإيفاء بتعهدات سابقة تتعلق بتقديم ورقة إصلاح اقتصادي، وتجاوز قانون الإدارة المالية، تعزو مصادر مطلعة، لـ “اندبندنت عربية”، أسباب الخلاف إلى “تعيين الوزير عدداً من الدرجات الخاصة في الوزارة خارج إرادة اللجنة البرلمانية”، وأشارت تقارير صحافية إلى حدوث مشادة وتبادل شتائم بين وزير المالية ورئيس اللجنة البرلمانية هيثم الجبوري، وصلت إلى حد “المناوشة بالأيدي” على إثر الخلافات بين الطرفين حول إدارة الملف المالي.
وعلى الرغم من تأكيد وزير المالية أن برنامج الإصلاح الاقتصادي بحاجة إلى وقت طويل نتيجة الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد، وإشارته إلى أن شح الموارد المالية هو ما يضطر الحكومة الحالية إلى الاقتراض الداخلي والخارجي، فإن فريقاً من المتخصصين في السياسة المالية يرون أنها مبررات “غير مقنعة”.
ويعتبر مدير العمليات المالية السابق في البنك المركزي محمود داغر أن “الحكومة لم تفِ بأي من وعودها في ما يتعلق بالضرائب والمنافذ الحدودية”، مبيناً أن “تقديم وزارة المالية ورقة الإصلاح لا يتطلب وقتاً طويلاً”، ويضيف داغر لـ “اندبندنت عربية”، “غاية الحكومة من إقرار موازنة لما تبقى من السنة المالية هي الحصول على دين داخلي إضافي، لأنها استنزفت الاقتراض السابق، ولا تستطيع الاقتراض من صندوق النقد الدولي والجهات الدولية الأخرى”، لافتاً إلى أن “طروحات اللجنة المالية في البرلمان أكثر إقناعاً من طروحات الوزير في الخلافات الحالية”.
ويضيف، “بلغ احتياطي البنك المركزي في يونيو (حزيران) حوالى 65 مليار دولار، ونتيجة الإنفاق في الأشهر الماضية وصل إلى حوالى 58 مليار دولار”، مبيناً أن “أي دين إضافي يشكّل ضغطاً على احتياطيات البنك”، ويستبعد داغر أن تكون هناك ضرورة اقتصادية لإقرار موازنة لما تبقى من 2020 والاكتفاء بصيغة الصرف السابقة.
إشكالات قانونية وتهديد لاحتياطيات البنك المركزي
في السياق، تكشف مصادر أن الحكومة العراقية تحاول إرسال مقترح موازنة لما تبقى من السنة المالية من دون مراعاة نسب العجز والدين العام، مبينين أنها “مخالفة قانونية” يجب تلافيها، ويقول الاقتصادي أحمد هذال، “كان من المفترض أن تقدم الحكومة ورقة إصلاح اقتصادي، بعد أن حصلت على تصويت البرلمان بالاقتراض الداخلي والخارجي، لكنها عوضاً عن ذلك تحاول دفع البرلمان إلى التصويت على ما تبقى من موازنة 2020 من دون مراعاة نسب العجز فيها، أو الدين العام وكيفية معالجته”.
ويضيف هذال لـ “اندبندنت عربية”، “قيمة العجز في موازنة 2020 تبلغ حوالى 81 تريليون دينار (حوالى 68 مليار دولار)، أما الإيرادات فلا تتعدى 67 تريليون دينار (56 مليار دولار). في حين بلغت النفقات العامة، بما فيها الاستثمارية، حوالى 148 تريليون دينار (124 مليار دولار). وهذا تجاوز على القانون”.
ويشير إلى أن “أحد أبرز الإشكالات القانونية في شأن الموازنة العامة يتعلق بنسبة العجز فيها، إذ يمنع قانون الإدارة المالية تجاوزه ثلاثة في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، بينما بلغ العجز للسنة الحالية حوالى 30 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، وهذه كارثة ومخالفة قانونية سببها الاتفاقات السياسية”.
تحركات شكلية
وعلى الرغم من تعهدات رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي زيادة إيرادات الموازنة العامة وتنويع مصادر الدخل من خلال حسم ملفات عدة، بينها المنافذ الحدودية، فإن مراقبين يرون أنها لم تثمر عن أي نتائج حقيقية حتى الآن، ويشير هذال إلى أن “حوالى 90 في المئة من الإيرادات غير النفطية لم تصل إلى خزانة الدولة، على الرغم من التحركات الحكومية الأخيرة”، مبيناً أن ما جرى لا يعدو كونه “تحركات شكلية”، لأنها تصطدم بنفوذ جماعات سياسية على موارد المال.
ويلفت إلى أن “موازنة ما تبقى من 2020 نسخة من الموازنات السابقة، فضلاً عن كونها تشتمل على إضافات في النفقات العامة، ما يعدّ إخفاقاً في ظل الظرف المالي الذي تمر به البلاد”، مضيفاً “إعداد الموازنة في الظرف الحالي يفترض أن يكون على أساس التقشف، نتيجة المديونية العالية التي تصل إلى حوالى 130 تريليون دينار (حوالى 100 مليار دولار).
وفي شأن موازنة 2021 يبين هذال أن “سعر النفط فيها يجب أن يُعتمد بأقل من 10 دولارات عن سلة أوبك، وهذا يعني اعتماده بسعر 35 دولاراً حداً أقصى، كي لا نواجه مشكلة سيولة كما حدث في منتصف العام الحالي”، لافتاً إلى وجوب “استهداف إيرادات غير نفطية، وإيصالها إلى حوالى 25 مليار دولار، وإلا ستكون مديونية العراق في خطر كما حصل في لبنان”.
ويختم، “بإضافة العجز الحالي، ستبلغ مديونية العراق حوالى 64 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، لذلك بات من الضروري وضع سقف قانوني للدين العام، وبنسبة 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مثلما هو معمول به في بعض الدول الناشئة كي لا يجري استخدامه سياسياً في سد العجز”، مبيناً أن “كل تلك الإشكالات ستنعكس على موازنة 2021”.
حلان أمام إشكالية الاقتصاد العراقي
في سياق آخر، يعتقد السياسي المستقل إبراهيم الصميدعي أن أمام الحكومة العراقية حلين لمشكلة الاقتصاد العراقي، “إما تمويل الاقتصاد بالتضخم من خلال تعويم العملة، وإما اتخاذ إجراءات تقشفية وتخفيض رواتب الموظفين والنفقات التشغيلية”، مبيناً أن “أفضل الحلول هو التمويل بالتضخم”، ويضيف لـ “اندبندنت عربية”، “تعويم العملة يساعد على تحفيز الإنتاج المحلي، ويقلل من الاستيراد الذي يستنزف اقتصاد البلاد”. ويتابع “الاقتصاد العراقي دفع تكاليف باهظة في محاولات تثبيت سعر صرف الدولار من خلال نافذة بيع العملة في البنك المركزي، التي استُغلت لفساد كبير وهدر لنصف الطاقات الاقتصادية للبلاد”.
موازنة استثمارية لثلاث سنوات
وكانت اللجنة المالية في مجلس النواب قد كشفت في الثامن من سبتمبر (أيلول) عن شروع اللجنة المتخصصة في دائرة الموازنة العامة بإعداد موازنة 2021، مبينة أن الموازنة الاستثمارية تكون على ثلاث سنوات.
وقال مقرر اللجنة أحمد الصفار، في تصريحات صحافية، “الجديد في الموازنة العامة هو المتعلق بشق الموازنة الاستثمارية، إذ ستكون على ثلاث سنوات، وتقسم المبالغ عليها”، مضيفاً “لا يوجد مشروع يجري استكماله في عام واحد. لذا ستُخصص موازنة للاستثمار لثلاث سنوات مجزأة لسنوات. وهذا ما يسمى أداء موازنة سنوياً، ومن المتوقع أن تحدث تغييرات في هيكل الموازنة والأمور المتعلقة بالجانب التشغيلي والاستثماري”، وأشار إلى أن “العام الحالي قارب على الانتهاء، ومشروع موازنة 2020 الذي سيُرسل للمصادقة عليه في مجلس النواب سيكون مرتكزاً على الجانب التشغيلي لا الاستثماري. وسيجري تثبيت المبالغ التي صُرفت منذ بداية السنة المالية حتى سبتمبر. وما تبقى منها سيكون تخمينياً في الإنفاق والإيرادات”.
أحمد السهيل
اندبندت عربي