عرضت روسيا وساطتها في نزاع شرق المتوسط الذي تنخرط فيه تركيا في مواجهة عدة أطراف وخاصة قبرص واليونان. وجاء العرض إثر زيارة قام بها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى قبرص بداية الأسبوع بعد زيارة خاطفة إلى دمشق هي الأولى له منذ ثماني سنوات. وهذا النشاط الدبلوماسي يتزامن مع الإعلان عن مناورات عسكرية قريبة في المتوسط بين الأسطولين الروسي والتركي بالرغم من مواقف البلدين المتباعدة من ليبيا إلى سوريا.
ويأتي كل ذلك بينما يتأثر حلف شمال الأطلسي مليّاً بهذا النزاع ولا يتوصل الاتحاد الأوروبي لمجاراة موقف فرنسا الداعي لفرض خطوط حمر أمام التمدد التركي. وأمام التراجع الأميركي في الحوض المتوسطي، يتنامى الدور الروسي في البحر الأبيض المتوسط وكأن روسيا تحقق حلماً راودها منذ القرن الثامن عشر وتصل للمياه الدافئة.. لكن احتدام نزاعات الطاقة والنفوذ من شرق المتوسط إلى ليبيا يزيد من حجم المتغيرات ويهز التوازنات الإستراتيجية.
إن هذا التمكن الروسي ليس ابن ساعته بل نتيجة مسار تصاعد مع عودة موسكو إلى الساحة الدولية. إذ بدأت رحلة الانتقام الروسي من التاريخ مع قرار الرئيس فلاديمير بوتين الانخراط في سوريا منذ 2011، ويتضح مع الوقت أن موسكو لا تكتفي بترسيخ وجودها في سورياً شرق المتوسط، بل أنها نجحت في التمركز على الساحل الليبي جنوب البحر الأبيض المتوسط مروراً بمصر ووجود عسكري في قبرص.
التنسيق بين الرئيسين الروسي والتركي انطلاقاً من سوريا أنتج صلة خاصة بين موسكو وأنقرة، إلى حد أن تحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع لم تتعرض له موسكو زعيمة الأرثوذكسية بالنقد
هكذا من التحكم بالورقة السورية إلى الدخول على خط الأزمة اللبيبة، ينقل القيصر الجديد أحجاره على رقعة شطرنج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك على حساب اللاعبين الأوروبيين منتهزاً استمرار إعادة التموضع الأميركي إبان ولاية دونالد ترامب. وبالطبع من خلال تعزيز حجمها الإستراتيجي في المتوسط وعلاقتها “الحوارية” مع تركيا تعمل موسكو على خلخلة الناتو وربما تطمح كذلك لكسب الجائزة الكبرى المتمثلة بالخط الاستراتيجي على الطريق نحو البحر الأسود، وحماية خاصرة جنوب القوقاز.
خلال زيارته الأخيرة إلى سوريا على رأس وفد سياسي اقتصادي رفيع المستوى، بحث لافروف مع الرئيس بشار الأسد ونظيره وليد المعلم ملف “العملية السياسية” ومسار اللجنة الدستورية وضرورة تحقيق تقدم مع الانفتاح على المكون الكردي بعد رعاية وزير الخارجية الروسي نفسه على توقيع اتفاق بين قدري جميل نائب الرئيس السوري سابقا ورئيس منصة موسكو في المعارضة حالياً، والجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد). لكن الجانب الاقتصادي طغى في سعي لكسر “الحصار الاقتصادي” غير المعلن مع العقوبات الاقتصادية الأميركية، وخاصة قانون قيصر الذي بات عقبة حاسمة أمام تمويل إعادة الإعمار، ولا يمكن تجاوز ذلك من دون الحل السياسي الفعلي ووقف العنف.
وبينما يستنتج الروس أن حصاد المنافع في سوريا ليس قريبا والدليل أن “عقد عمريت” عام 2013 (اتفاق ضخم وقعته شركة روسية مع دمشق) للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية، يبقى مجمداً فيما تحكم واشنطن السيطرة على شرق الفرات حيث توجد السلة الغذائية والثروة النفطية السورية، لذا تسعى موسكو لتعزيز مكاسبها على الساحل السوري الذي يسميه البعض “روسيا الجديدة” وبالإضافة لاستملاك واستثمار الكثير من الأراضي ومرفأ طرطوس، تصر موسكو على إدارة ميناء اللاذقية وعدم السماح لإيران بأي تمركز اقتصادي بارز في هذه المنطقة.
ومن خلال قاعدتها على الساحل السوري وتواجدها في باقي الحوض المتوسطي ولسياساتها البراغماتيكية (المختلفة عن الصلات الأيديولوجية في زمن الحقبة الشيوعية) تحاول روسيا المنتج الكبير للغاز الطبيعي أن تكون حاضرة ومقررة في معركة موارد وأنابيب الغاز انطلاقا من الحوض المشرقي الواعد حتى لا ينافس مستقبلا صادراتها نحو أوروبا.
ويبقى التغيير الإستراتيجي هو الأهم بالنسبة لموسكو، حيث أنه منذ التدخل الواسع في سوريا في سبتمبر 2015، استمر الاندفاع من أجل استكمال درع حماية صاروخي وبحري روسي في شمال شرق المتوسط مماثل لمنظومة حماية أخرى في البحر الأسود. يندرج هذا الانتشار في نطاق لعبة السيطرة على البحار (في محاولة للتواجد أمام البحرية الأميركية واستباق استكمال صعود البحرية الصينية) وهو إنذار لا سابق له ضد النفوذ الأميركي والغربي. ومن المنطقي الملاحظة أن التكتيك الأميركي التراجعي دفع لاحقا موسكو للتمدد أكثر مع زيادة هامش مناورتها نحو ليبيا في تطبيق لإستراتيجية بوتين الذي لا يسعى بالضرورة إلى إعادة بناء الاتحاد السوفييتي السابق، لكنه يحاول إعادة بناء وتأكيد قدرة روسيا على فرض نفوذها خارج حدودها.
موسكو لا تكتفي بترسيخ وجودها في سورياً شرق المتوسط، بل أنها نجحت في التمركز على الساحل الليبي جنوب البحر الأبيض المتوسط مروراً بمصر ووجود عسكري في قبرص
حسب وجهة نظر صناع القرار في موسكو يتيح المرور عبر الخط الإستراتيجي نحو البحر الأبيض المتوسط الوصول إلى المحيط الهندي وحماية أمن الخاصرة الجنوبية لروسيا، ويسمح التمركز الروسي على هذا الخط بتأمين مواقع مثالية في مواجهة منظومة حلف شمال الأطلسي. ومما لا شك فيه أن تصاعد التوتر في شرق المتوسط يصب في طاحونة تناهي الدور الروسي نظرا للخلل ضمن الناتو تبعا للدور التركي والمبارزة بين فرنسا وتركيا وكذلك بين تركيا وغالبية دول جوارها.
ومن الواضح أن التنسيق بين الرئيسين الروسي والتركي انطلاقاً من سوريا أنتج صلة خاصة بين موسكو وأنقرة، إلى حد أن تحويل متحف آيا صوفيا (الكنيسة الأرثوذكسية سابقاً) إلى جامع لم تتعرض له موسكو زعيمة الأرثوذكسية بالنقد واعتبرته أمراً داخلياً. والملاحظ كذلك أن الصلة لم تتأثر بسبب تمركز الطرفين في معسكرين متقابلين في ليبيا وخسارة روسيا لرهانها الكبير هناك لم يؤد إلى تفاقم الأمور بين “السلطان الجديد” و”القيصر الجديد” لأن مشروعيهما الإمبراطوريين لا يتصادمان حكماً، بل يهمشان أوروبا التي لم تبق قطبا اقتصاديا ولم تتحول إلى قطب إستراتيجي برغم المسعى الفرنسي لاستعادة الدور الأوروبي في البحر المتوسط.
لا تنتمي أراضي روسيا الشاسعة من قريب أو بعيد إلى الفضاء المتوسطي، لكن إقليم المتوسط كان مدار اهتمام موسكو منذ عهد القياصرة بسب هدف الوصول للمياه الدافئة ولصلته بالمجال الحيوي الروسي جغرافياً وتاريخياً ودينياً، لكن لهذا الشريان أهمية استثنائية اليوم للتجارة الدولية ونقل الطاقة ولأنه الممر نحو المحيط الأطلسي ومركز التنافس المستقبلي بين الولايات المتحدة الأميركية والصين وبعض الأوروبيين في سياق إعادة تشكل النظام الدولي.
صحيفة العرب