أن تصحو صباحاً لتجد من حولك أعمال بناء وإنشاء تفصل مدينتك إلى مدينتين منفصلتين متعاديتين، فهذا ما حدث بالفعل في برلين بعد سنوات قليلة من الحرب العالمية الثانية. انقسام تجزأ العالم من ورائه إلى جبهتين شكلتا الحرب الباردة، فما الرابط وما القصة التي نشأ عنها هذا الوضع؟
بالنسبة للعالم أجمع لم يكن الثامن من مايو (أيار) 1945 يوماً عابراً، بل كان يوماً فارقاً ودّع فيه الجميع النازية بكل ما عنته حينها من مآس وجرائم وحروب، يوم توج فيه الجيش الروسي وكذا الحلفاء الغربيون مسيرة ست سنوات كاملة من الحرب، باستسلام غير مشروط من قبل من تبقى من القادة النازيين.
انتهت الحرب العالمية الثانية فعلياً يوم 30 من مايو 1945، حين انتهت حياة أدولف هتلر، وزحفت جحافل الجيش الأحمر في لباس المنتصرين إلى قلب برلين، والتقط المصور العسكري السوفياتي يافجني خالدي صورته الأشهر، حيث علم السوفيات مرفوعاً على مبنى “رايخستاغ”.
فضّل ما تبقى من الجيش الألماني المندحر الاستسلام لا للروس، وإنما للحلفاء الغربيين أملاً في معاملة أفضل، خلا وجه برلين وألمانيا جميعها للمنتصرين، وشوهد الجنود الروس والأميركيون معاً في برلين في أجواء احتفالية نادرة، يرقصون حول إحدى صور هتلر المضرمة فيها النيران.
لكن هذه الاحتفالات لم تدم طويلاً، فقد حانت اللحظة لتقسيم الكعكة، شهران فقط قبل هذه الاحتفالات، اجتمع الروس ومعهم البريطانيون والأميركيون في مؤتمر يالطا، ذلك المؤتمر الذي أسس لواقع جغرافي جديد، اتفقت فيه هذه الدول على تقسيم ألمانيا بعد الحرب، تقسيماً وقعت فيه برلين ضمن الحيز السوفياتي.
نظراً لخصوصية برلين وكونها العاصمة، توصّل المنتصرون إلى اتفاق يقضي بتقسيمها هي الأخرى، حيث بات الجزء الشرقي منها من نصيب السوفيات، بينما الجانب الغربي قُسم بين كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا.
كان هدوءاً مؤقتاً فرضته ظروف ما بعد الحرب، لكن جعبة كلا الطرفين كانت مليئة بالأطماع والأيديولوجيات المتعارضة، ما نشأ عنه تصادمات شتى كان أبرزها قرار القوى الغربية إغراق برلين بالفرنك كعملة بديلة عن الرايخ الألماني المنهار، وهو ما اعتبره السوفيات خطوة أحادية.
في يونيو (حزيران) عام 1948 اتفقت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على توحيد مناطق نفوذهم، وهذه الأمور مجتمعة أدت بستالين إلى قطع الطرق وخطوط السكك الحديد عن برلين الغريبة، وفرض حصار شديد ومحكم عليها استمر مدة عام.
برلين الغربية محاصرة من جميع الجهات، والقوى الغربية أمام تحد حقيقي في الوفاء بالتزاماتها نحو مناطق نفوذها، لذلك شيدت الدول الغربية جسراً جوياً موازياً للحصار، عمدت من خلاله إلى إيصال المساعدات والغذاء يومياً إلى مليوني شخص مدة عام كامل.
رفع السوفيات الحصار أخيراً بعدما أيقنوا عدم جدواه، وأضحى العام 1949 شاهداً على إعلان قيام دولتين جديدتين هما ألمانيا الغربية والتي ضمت المناطق الألمانية القابعة تحت النفوذ الغربي، ودولة ألمانيا الشرقية التي ضمت المناطق الألمانية القابعة تحت النفوذ السوفياتي.
إلى ذلك الحد لم ينته الصراع، إذ أضحت كلتا الألمانيتين ساحة تتلاقى فيها أطراف الحرب الباردة، وصارت مع الوقت مسرحاً فعلياً للجواسيس والعمليات الاستخباراتية، وصار التنافس على أشده بين الجمهوريتين، نجحت الغربية في الاختبار مبدئياً وقدمت نموذجاً أفضل من حيث الدخل المالي والحريات.
الوضع الاقتصادي والاجتماعي المنفتح لألمانيا الغربية الرأسمالية قابله وضع خانق في الشرقية الشيوعية، ما دفع كثيراً من أصحاب التعليم الجيد إلى ترك الشرقية والهجرة إلى الغربية، ليجد السوفيات أنفسهم أمام نقص شديد في العقول والعمالة الماهرة، وهو نقص عطل عليهم تحقيق النجاح في جمهوريتهم الألمانية.
كل هذه الأمور وأكثر جعلت من ليلة 13 أغسطس (آب) 1961 شاهدة على البدء في تشييد سور مفاجئ فصلت به ألمانيا الشرقية نفسها عن ألمانيا الغربية، ومن وراء هذا الجدار تبلورت الحرب الباردة أكثر، وانقسم معها العالم إلى معسكرين، أحدهما يتبع الغرب الرأسمالي، أما الآخر فيتبع السوفيات الشيوعيين.
بني الجدار على امتداد 186 كيلومتراً، ووصل ارتفاعه إلى حوالى ثلاثة أمتار، فيما أنشئت حوله مناطق عسكرية وأعمدة إنارة قوية، ووضع شرق الجدار ممشى ترابي غرضه الكشف عن آثار المتسللين، وكانت الأوامر صارمة بالنسبة للحراس في التعامل مع المتسللين عبر إطلاق النار المباشر.
تقطع السبيل بين الألمان على شقي الجدار، إذ تفرقت العائلات والأسر، وصار عصياً على الشرقيين ملاقاة الغربيين والعكس، وبالرغم من ذلك لم تنقطع محاولات اختراق الوضع، واتخذ الألمان لذلك سبلاً كثيرة، فحفرت الأنفاق أحياناً، وتسلق المغامرون أحياناً أخرى، في حين مات كثيرون وهم يحاولون.
صمد الجدار ومعه هذا التقسيم المجحف لمدة 26 عاماً، لكن لا شيء يبقى على حاله، فقد دفعت الأوضاع السياسية المتدهورة في ألمانيا الشرقية كثيراً من المعارضين إلى الاحتجاج والتظاهر، وهو الأمر الذي قابلته السلطات بقمع شديد ومتكرر أخمد تلك التحركات وأتى عليها.
احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 1989 كانت مختلفة، إذ قابلتها الحكومة بمرونة، وسمحت من خلالها للجماهير بالتعبير عن ذاتهم، فكانت الفرصة سانحة لجماهير غفيرة اجتمعت في ميدان ألكسندر ببرلين الشرقية مطالبة بالإصلاح، تجمعات كبيرة لم يكن أمام السلطات حينها من بد سوى الرضوخ لمطالبها.
لم يكن من شيء ليستوعب كم الغضب الشعبي في ألمانيا الشرقية الذي تراكم عبر السنين، ولم يكن من شيء ليستوعب ذلك إلا قرار تاريخي أقدمت عليه برلين الشرقية مساء 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، حيث أعلنت قرارها بسقوط الجدار وفتح الحدود مع جارتها الغربية.
سادت الفرحة كلا الألمانيتين، ولم ينتظر الشعب صباح اليوم الثاني، بل خرجت جموع غفيرة على شقي الجدار، وظهرت المعاول اليدوية بأيدي الألمان الذين ظهروا في لقطات تعبيرية يهدمون الجدار ويحطمون ما فرض عليهم من انقسام، وظفرت بعض العائلات أخيراً بالتلاقي بعد فراق دام نحو ثلاثة عقود.
ذلك الانهيار التاريخي لجدار برلين لم يقف عند حدود ألمانيا، بل انجرف رأساً ناحية الشرق، حيث دق مسماراً أخيراً في نعش الشيوعية، ومهد نحو تلاق وحدوي لشطري ألمانيا، وذلك في الثالث من أكتوبر 1990، لتنطلق ألمانيا بعد كل هذا العناء نحو ما هي عليه الآن من تطور وازدهار.
بعد زهاء ثلاثة عقود من سقوط الجدار وعودة ألمانيا موحدة، دبّ الحنين في نفوس كثير من الشرقيين إلى جمهوريتهم المتلاشية، حنين لا يحمل صبغة سياسية أو انفصالية، بل يحمل اشتياقاً إلى مظاهر الحياة التي سادت حينذاك، وتلك ظاهرة اجتماعية تلاقى المتخصصون على تسميتها بـ “الأوستالغي”.
ماجد الماجد
اندبندت عربي