الباحثة شذى خليل*
التنافس بين واشنطن وبكين أحد أهم العوامل المحددة للعلاقات الدولية، فيما تزداد المخاوف من احتمال انزلاق هذا التنافس إلى نزاع عسكري يهدد الأمن والسلام العالميين.
وهنا السؤال.. هل أصبحت بكين مماثلةً لواشنطن اقتصاديا؟
هناك اعتبارات مهمة يجب التركيز عليها، على سبيل المثال: كم من المال يمكن للصين أن تساهم به في صندوق النقد الدولي والوكالات المتعددة الأطراف الأخرى، وكم قوة التصويت التي يجب أن تحصل عليها في المقابل؟.
وهناك اعتبار آخر يتمثل في وجهة نظر الدول الأخرى ذات المطالب التنافسية في منطقة بحر الصين الجنوبي: كم عدد السفن التي يمكن للصين شراؤها وبناؤها ونشرها؟ وللإجابة على هذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة الجيوسياسية، من المفيد الاستناد إلى الناتج المحلي الإجمالي للصين بأسعار الصرف الحالية.
فالمسألة لا تتعلق بكمية الخدمات المحلية التي يمكن للمستهلكين الصينيين شراؤها، بل ما الذي يمكن أن يشتريه اليوان في الأسواق العالمية.
إنَّ صندوق النقد الدولي نفسه يستعرض الناتج المحلي الإجمالي للدول في صورة مماثلات القوة الشرائية لخدمة أغراض محددة للغاية في توقعاته الاقتصادية العالمية.. لكن صندوق النقد الدولي لا يتخذ موقفاً من السؤال المتعلق بأي الاقتصاديات أكبر.
كيف يقيم صندوق النقد الدولي اقتصاد البلدين، ومتى سيتم نقل مقره من واشنطن إلى بكين؟
أقرب تقييم لصندوق الاقتصاديات هو صيغته التي توجه تخصيص حصص الدول الأعضاء.. وهنا، يُحسَب الناتج المحلي الإجمالي وفقاً للآتي: 60% منه وفق أسعار الصرف السوقية و40% وفق أسعار مماثلات القوة الشرائية.. (يمثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي نصف الصيغة الإجمالية، في حين تمثل المقاييس الأخرى، مثل الانفتاح التجاري، النصف الآخر).
يأخذ صندوق النقد الدولي أحجام حصص الدول الأعضاء بشكل جدي، فعلى سبيل المثال، إذا حصلت الصين على حصة أعلى من الولايات المتحدة، فإنَّ بنود اتفاقية الصندوق تتطلب منه نقل مقره من العاصمة الأمريكية واشنطن إلى بكين.
وفي هذا الوقت أي 2020 تتمتع الصين بنفوذ أقل بكثير من الولايات المتحدة في صندوق النقد الدولي، لكن في عهد الرئيس دونالد ترامب، تتخلى الولايات المتحدة عن نفوذها في المنظمات متعددة الأطراف مثل منظمة التجارة العالمية ومنظمة حلف شمال الأطلسي ومنظمة الصحة العالمية (حتى في خضم جائحة فيروس كورونا المستجد)، وبالتالي، لا يجب أن يندهش أحد لأن الصين تتوجه لملء هذا الفراغ.
وفي الجانب الآخر.. بكين تعتقد بأن الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب باتت مصممة أكثر من أي وقت مضى، على احتواء صعود القوة الصينية بكل الوسائل، وأن واشنطن تنظر للصعود المتنامي للصين باعتباره تهديدا لأمنها القومي وتحديا للديمقراطيات الغربية، وأكدت أن واشنطن تسعى لإضعاف مكانة الحزب الشيوعي الحاكم من خلال تقويض ثقة الصينيين فيه.
وفي أعقاب أحداث ميدان تيانانمين قبل ثلاثين عاما، فرض الغرب حزمة عقوبات على الصين، شملت حظرا على نقل التكنولوجيا وبيع الأسلحة، غير أن الصين اليوم باتت عملاقا اقتصاديا وطورت قدرات عسكرية هائلة؛ بحرية وجوية، قادرة على تحدي الهيمنة العسكرية الأمريكية في آسيا، وتعمل الصين على تطوير قوة قتالية مؤهلة للنصر في الحروب الحديثة في تحد واضح لأكثر من سبعين عاما من الهيمنة العسكرية الأمريكية على آسيا.
أما في المجال العسكري الذي لا يزال الأمريكيون متفوقون فيه على غريمهم الصيني، من حيث التسلح والتكنولوجيا والتحالفات، رغم أن الصين تتقدم وتُطور قدراتها، رغم أن ليس بإمكان الصين تحدي القوة الأمريكية على المستوى العالمي، إلا أنها باتت قوة عسكرية ذات مصداقية وتأثير في محيطها الإقليمي.
تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” بشأن عام 2019 والصادر يوم (27 أبريل / نيسان 2020) أكد سباقا عالميا محموما غير مسبوق نحو التسلح والإنفاق العسكري، وتتقدم الولايات المتحدة على الصين، إذ زادت نفقاتها العسكرية بنسبة 5.3٪ إلى 732 مليار دولار مقارنة بعام 2018، وهو ما يمثل 38٪ من مجموع الإنفاق العالمي، تتبعها الصين بـ 261 مليار دولار، بزيادة قدرها 5.1٪ على أساس سنوي، وأوضح نان تيان، الباحث في معهد “سيبري”، أن الصين “أعلنت سعيها للتنافس مع الولايات المتحدة كقوة عسكرية عظمى”، لكن النفقات الأمريكية لا تزال هي الأعلى في العالم وتوازي تقريبا مجموع نفقات الدول التالية (الصين، السعودية، الهند، فرنسا، روسيا، بريطانيا، ألمانيا واليابان).
Infografik – Militärausgaben USA und China – AR
غير أن دراسة لـ”مركز دراسات الولايات المتحدة” في جامعة سيدني الأسترالية، صدرت في (19 آب / أغسطس 2019) أكدت تراجع قوة الجيش الأمريكي في آسيا، وأنه لم يعد في موقع يسمح له بمواجهة الصين.
وبينت الدراسة أن الجيش الصيني يمكنه القضاء على القواعد الأمريكية في آسيا بصواريخه في غضون ساعات قليلة، الدراسة التي لقت صدى إعلاميا كبيرا، قالت أن “الصين أنشأت ترسانة مثيرة من الصواريخ الدقيقة وأنظمة الدفاع الأخرى، مما يقوض الهيمنة العسكرية الأمريكية في المنطقة”، وقالت إن جميع المنشآت العسكرية الأمريكية وتلك التابعة لحلفائها في غرب المحيط الهادئ “في مرمى الهجمات الصاروخية الصينية الدقيقة خلال الساعات الأولى لأي صراع مسلح”.
المفارقة هو أن التطور الاقتصادي الهائل للصين خلال العقود الثلاثة الماضية تم بمباركة أمريكية، فقد أيد الأمريكيون انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، واستضافت جامعاتهم العديد من الباحثين الصينيين، كما وضعت الشركات الأمريكية الصين في قلب سلاسل انتاج الاقتصاد العالمي، وكانت واشنطن تراهن في ذلك على تقارب وتكامل النموذجين الاقتصاديين، إلا أن ذلك لم يتحقق بالشكل الذي كانت ترجوه، كل هذا أدى إلى تحول استراتيجي في التصور الأمريكي، ظهر من خلال تراكم العقوبات التجارية والعقوبات المضادة في حرب بدأت في يناير/ كانون الثاني 2018، تأثيرات هذه الحرب هائلة، ففي عام 2019، تراجعت الصين من أول إلى ثالث أكبر مورد للولايات المتحدة بينما انخفضت الصادرات الأمريكية إلى الصين.
وختاما.. يبقى الوضع بترقب شديد بين واشنطن وبكين وهل يمكن التوصل إلى اتفاق يساعد في تسوية الحرب التجارية بين البلدين، ولكن يبدو أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين يتجاوز الاقتصاد إلى الدفاع والثقافة والتكنولوجيا، فما الذي تريده الولايات المتحدة من الصين؟ وكيف ستكون نهاية المنافسة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية؟
حيث ان و بالرغم من المحادثات الكثيرة الإيجابية بين الطرفين.. يبقى التوتر بين البلدين مستمر ليصل إلى مدى أعمق من مجرد خلاف تجاري، ولا يعتقد أحد من المتخصصين في واشنطن أن اي اتفاق سيحقق فارقا كبيرا.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية