لم يكن الربيع العربي حدثا عاديا في تاريخ الأمة، فحين جاء كانت الشعوب متحفزة للتغيير، وكانت الأمة منهكة نتيجة للضغوط الداخلية والخارجية التي تتكالب عليها، وتثقل كاهلها.
ولو رسمنا صورة بانورامية لوضع الأمة غداة “الربيع العربي” عام 2011 لوجدنا أمرين:
الأول: حكومات مستبدة في كل من مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن والعراق إلخ.. احتكرت القرار في كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وربطته بشخص القائد أو الرئيس، ونهبت الأموال، ووزعتها على أسرها، وأزلامها، وكتمت الأنفاس، فلم تسمح لأحد بأن ينتقد أو يُصلِح، بل قَصَرت الكلام على المديح أو الثناء للحكم والحاكم.
وزرعت الخوف في كل مناحي الدولة من خلال أجهزة أمنية متعددة، وربطت كل حركات المواطن بهذه الأجهزة الأمنية، وبهذا أهلكت البلاد والعباد.
ثم بدأ أولئك الحكام المستبدون يهيئون البلاد لتوريث الحكم لأبنائهم، ونسوا أن بلدانهم ليست مزرعة لهم، لكي يستأثروا بها، ويورثوها لأبنائهم، لكن فساد طويتهم، وأنانيتهم، زينت لهم ذلك.
“كان تحرك شعوب الأمة في دول عدة مُبررا، وكانت ثورتها على الحكام الفاسدين سليمة، وكانت ولادة “الربيع العربي” سليمة وطبيعية من أجل ابتداء مشروع نهضوي جديد بعد فشل المشروع النهضوي الذي بدأ قبل أكثر من قرن”
وقد نجح بعضهم في ذلك، كما حدث في سوريا عندما ورثحافظ الأسد الحكم لابنه بشار، ولم ينجح ذلك في مصر واليمن وليبيا وتونس، لأن شعوب تلك الدول قد ثارت مطلع عام 2011، وتوقفت مخططات التوريث، إذ زال الطغاة ونجحت الثورات في اقتلاعهم كما حدث مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي.
الثاني: تطلعت الأمة إلى النهضة بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد الثورة العربية الكبرى التي انطلقت شرارتها من مكة عام 1916، وأملت الأمة في أن تبني هذه النهضة مجتمعا حرا غنيا متعلما، وأن تبني دولة قوية مستقلة تحمي شعبها، وتذود عن حدودها، وتساهم في البناء الحضاري للبشرية، ولكن هذه الآمال تبخرت بشكل كامل بعد قرن على بدايتها، فوجدنا أن إسرائيلقامت على جزء من أرض فلسطين عام 1948، ثم احتلت إسرائيل أراضي واسعة أخرى عام 1967، فاحتلت سيناء من مصر، والضفة الغربية من الأردن، والجولان من سوريا.
إذن لم يكن هناك تحرر، بل هناك أرض محتلة من عدو رئيسي هو إسرائيل، ولم يكن هناك استقلال وطني، بل هناك تبعية للدول الغربية في القرار السياسي، ولم تستطع دول النهضة أن تبني مجتمعا صناعيا غنيا، وعلى العكس فإن الفقر هو الغالب على حياة الشعوب العربية، وما زال دخل الفرد في العالم العربي في أدنى مستويات الدخل على مستوى العالم بالمقارنة مع الدول الأخرى مع غنى الموارد الطبيعية.
ولم تبنِ النهضة مجتمعا متعلما، بل ما زالت الأمية تتجاوز 40% في العالم العربي، وما زالت الجامعات العربية في ذيل جامعات العالم من ناحية الكفاءة العلمية والبحث العلمي.
ولم تبنِ النهضة مجتمع العدل والمساواة، بل بنت مجتمعا ساد فيه الظلم وانعدمت المساواة، وتحكمت قلة من الأشخاص في مجموع الشعب، هذه القلة إما أن تكون عشيرة، أو طائفة، أو عائلة، واستأثرت بالقرار وظلمت بقية الشعب.
ولم تبنِ النهضة مجتمع الأمن، بل بنت مجتمع الخوف، الذي سادت فيه أجهزة الاستخبارات التي تنشر الخوف والرعب في حياة الشعوب العربية. 
لقد كانت هذه بعض معالم الصورة مطلع العام 2011 غداة انفجار شعوب “الربيع العربي”: حكام وحكومات فاسدة مستبدة من جهة، وفشل كامل لمشروع النهضة الذي بنت الأمة عليه آمالها قبل قرن من الزمان من جهة ثانية.
لقد كان تحرك شعوب الأمة في تونس ومصر وسوريا واليمن والعراق والمغرب مُبررا، وكانت ثورتها على الحكام الفاسدين سليمة، وكانت ولادة “الربيع العربي” ولادة سليمة وطبيعية من أجل ابتداء مشروع نهضوي جديد بعد فشل المشروع النهضوي الذي بدأ قبل أكثر من قرن.
“لماذا سمح الغرب لـ “داعش” بالحضور والمرور والانتشار؟ الواقع أنه أراد تشويه الإسلام، والقيادات الإسلامية من جهة، وإعطاء مبرر لبعض أعماله وتصرفاته من جهة ثانية، وبذلك يقطع الطريق على الربيع العربي وقياداته وطروحاته الإسلامية”
وقد أبرز “الربيع العربي” حقيقتين:
1- ارتباط الأمة بإسلامها وبقياداتها الإسلامية:
2- فشل المنظومة الفكرية التي قامت عليها النهضة السابقة:
لقد اعتمدت النهضة التي انطلقت مطلع القرن العشرين على مجموعة من الأفكار أبرزها” “القومية العربية”، و”الوطنية”، و”العلمانية”، و”الاشتراكية”، وقد فشلت هذه الأفكار في تحقيق النهضة، وقد كان الغرب راعيا لهذه الأفكار، وكان هذا الفشل مؤشرا على فشل التغريب الذي رعاه الغرب ورعى نخبه منذ القرن التاسع عشر.
لذلك عندما جاء “الربيع العربي”، وكان رافعة لنهوض الأمة، قام أعداء الأمة بإفشاله، واستخدموا عدة أدوات كان أبرزها:
– تنظيم الدولة الإسلامية (داعش):
ليس من شك بأن الناظر إلى مسيرة “القاعدة” التي هي سلف “داعش” يلحظ بأن انتشارها وتوسعها يعود إلى تخطيط غربي، وسأذكر حادثتين فقط للتدليل وهما:
أ- بعد لقاء بين خالد الشيخ وأسامة بن لادن في أفغانستان، عرض الأول على الأخير فكرة تدمير البرجين في نيويورك عام 1996، لكنه رفض هذه الفكرة في البداية، ثم أعاد الشيخ طرح فكرة تدمير البرجين مرة ثانية على بن لادن فوافق عليها عام 1999، ثم نفذ الخطة التي وضعها في إرسال “الانتحاريين” إلى أميركا وتدريبهم، وتم تدمير البرجين يوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
ومن الأرجح أن المخابرات الأميركية وصلتها معلومات عن إجراءات الشيخ لتدمير البرجين، لكنها سكتت عليها ومررتها من أجل أن تجعل ذلك مُبررا لاحتلال أفغانستان ثم العراق من جهة، ولتنفيذ خطة مسبقة تتعلق بتغيير جذري بخصوص المنطقة وضعها “المحافظون الجدد” من جهة ثانية.
ب- لقد حذرت أجهزة الاستخبارات الأميركية “أوباما” من استعدادات “داعش” واحتمال توسعها في العراق مطلع عام 2014، وعن نيتها احتلال الموصل وغيرها، لكنه لم يُلق بالا لهذه التقارير، وترك “داعش” تتمدد وتحتل الموصل، وتهدد العاصمة بغداد، ثم دعا إلى الحلف الدولي الذي شمل أربعين دولة في سبتمبر/أيلول 2014.
والسؤال الآن: ماذا قصد الغرب من السماح لـ “داعش” بالحضور والمرور والانتشار؟ قصد أن يُشوه الإسلام، والقيادات الإسلامية من جهة، ويُعطي مُبررا لبعض أعماله وتصرفاته من جهة ثانية، وبذلك يقطع الطريق على “الربيع العربي” وقياداته الإسلامية، وطروحاته الإسلامية، وبخاصة أنك ترى أن “داعش” تتمدد الآن إلى مصر في سيناء، وإلى تونس في جبال الشعانبي، وإلى ليبيا في سرت.
“استهدف مشروع “ملالي إيران” عدة أهداف منذ العام 1979، أبرزها تغيير بنية الأمة وتركيبتها التاريخية، لذلك فهو ساهم في توليد الصراع الطائفي، وتفتيت الوحدة الثقافية، وهو بهذا التقى مع “المشروع الغربي الصهيوني””
– مشروع ملالي إيران:
استهدف مشروع “ملالي إيران” عدة أهداف منذ أن قاد الخميني المشروع عام 1979، وكان أبرزها تغيير بُنية الأمة وتركيبتها التاريخية، لذلك فهو ساهم في توليد الصراع الطائفي، وتفتيت الوحدة الثقافية، وهو بهذا التقى مع “المشروع الغربي الصهيوني”.
وقد كثف “مشروع ملالي إيران” دوره الطائفي في بلدان “الربيع العربي”، فساعد نظام بشار الأسد في مواجهة الشعب السوري الذي ثار على استبداده وأجهزته الأمنية وفساد سلطته، لذلك طلبت إيران من “حزب الله” في لبنان، والمليشيات التابعة لها في العراق وباكستان وأفغانستان واليمن أن تُرسل كتائبها لتقاتل إلى جانب نظام الأسد، بعد أن كاد يسقط نهاية عام 2012، وبهذا أفشلت حلقة أساسية من حلقات “الربيع العربي”، وقد نجحت خطتها، لذلك فقد استعاد نظام الأسد جانبا من قوته عام 2013، وذلك بفضل مساعدات إيران وأموالها وأسلحتها واستخباراتها ومليشياتها.
وكذلك لعب مشروع ملالي إيران في إفشال الربيع العربي في دوله الأخرى مثل: اليمن والعراق ومصر وليبيا إلخ..، ولكن بصورة مختلفة من دولة إلى أخرى حسب ظروف تلك الدولة، ولكن الأبرز في دور المشروع هو إثارة النعرات الطائفية التي زلزلت كيان الأمة، وحرفتها عن مواجهة الخطر الأساسي المتمثل في المشروع الغربي الصهيوني.
الخلاصة: لقد جاء “الربيع العربي” مولودا شرعيا وطبيعيا لظروف مأزومة على مستويين: مستوى الحكام المستبدين والحكومات الفاسدة، وعلى مستوى انسداد الأفق أمام النهضة التي حلمت بها الأمة منذ مطلع القرن العشرين.
وقد أبرز “الربيع العربي” حقيقة ارتباط الأمة بإسلامها، وحقيقة فشل المنظومة الفكرية التي استندت إليها النهضة، واستخدم أعداء الأمة عدة أدوات لإفشال الربيع العربي منها: “داعش” و”مشروع ملالي إيران”.