تدلّ مُعطيات عدّة على أن الانتخابات التشريعية المبكرة والمرتقبة في العراق في بداية شهر يونيو/حزيران المقبل، ستكون استثنائية من نواحٍ عدة. ولعل الدليل الأخير على ذلك، ما تشي به تحركات الأحزاب والقوى السياسية المحلية، والتي تؤكد أن تنافساً وصراعاً انتخابياً محتدماً ينتظر البلاد. هذه التحركات تمخضت أخيراً عن إعلان نشوء حركات وتكتلات شبابية، أخذت تتبنى مطالب الحراك الشعبي، لكن تبيّن أن أحزاباً وشخصيات سياسية تقف خلف قسمٍ منها، وهي دفعت باتجاه تشكيل كياناتٍ رديفة لها، مستلهمةً شعاراتها من وحي ساحات التظاهر. هذا الأمر أدّى إلى مطالبة ناشطين عراقيين، بأن يخرج أيُّ إعلانٍ عن تأسيس حركةٍ أو تكتل مدني يمثل الحراك، من قلب ساحات التظاهر نفسها، حتى تثبت هذه الكيانات أنها ولدت من رحمها، وليست دخيلةً عليها.
ولا يزال الجدل دائراً في العراق منذ أسابيع، بشأن إمكانية إقرار قانون الانتخابات وآلية العمل به، التي تختلف حوله القوى السياسية. لكن هذا الجدل لم يمنع أحزاباً جديدة من بدء الترويج لنفسها، من خلال حملات وزيارات شرعت في تنفيذها، مترافقةً مع إطلاق الوعود، وتوزيع الهدايا، باستغلال المال العام. كما تلجأ هذه الأحزاب إلى تكثيف الظهور عبر وسائل إعلام مملوكة أصلاً للأحزاب التقليدية، ما يشير إلى انطلاق الحملة الانتخابية في العراق فعلياً، على الرغم من عدم الإعلان رسمياً عن ذلك.
تسعى أحزابٌ معروفة إلى دخول حلبة الانتخابات بأسماء غير متداولة، موحيةً بأنها منبثقة من ساحات التظاهر
وتحدّث أعضاء بارزون في الحراك الشعبي ببغداد والناصرية وكربلاء، لـ”العربي الجديد”، عن إعلان وجوه معروفة انتماءاتُها السياسية والحزبية، عن حركات سياسية جديدة، وذلك بهدف الدخول إلى حلبة الانتخابات بأسماء غير متداولة، والإيحاء بأنها منبثقة من ساحات التظاهر، ومن قلب الحراك الشعبي.
وأكد الناشط علي عباس، من ساحة اعتصام التربية في كربلاء، لـ”العربي الجديد”، أن وجوهاً حزبية وسياسية عمدت إلى تشكيل تكتلات، وهي تحاول اليوم تسجيلها في مفوضية الانتخابات، للمشاركة في الاستحقاق المقبل، متبنيةً مطالب التظاهرات. وبحسب عباس، فإن هذه التكتلات تزعم أن حركاتها خرجت من الساحات، مشدداً على عدم صحة ذلك، ومؤكداً أن أحزاباً كبيرة وفاعلة تقف وراءها لإجهاض أي مسعى لتغيير المعادلة داخل البرلمان المقبل، أو تغيير العملية السياسية ككل. ولفت الناشط العراقي إلى أن “المجلس الإسلامي الأعلى” وحزب “الدعوة الإسلامية”، وشخصيات سياسية في بغداد، بعضها معروفة بتنقلها من كتلة إلى أخرى قبل الانتخابات، هم أبرز المتورطين بالوقوف وراء هذه الخطوة، وتشكيل كيانات حزبية تنتحل صفة الحراك الشعبي.
تظاهرات العراق-سياسة-أحمد الرباعي/فرانس برس
تقارير عربية
كواليس محاولة هروب المتّهم الأول بـ”مجزرة الناصرية” إلى خارج العراق
في السياق، كشف ناشط مدني آخر في بغداد، طلب عدم ذكر اسمه، لـ”العربي الجديد”، عن خروج تحرك مضاد من قبل الحراك، يهدف للطلب بأن يعلن عن ولادة أي تشكيل ينتمي إليه، من داخل ساحات التظاهر، وألا يحتمل مطلقاً وجود أي سياسي سابق فيه.
ومن ضمن التكتلات الجديدة التي أبصرت النور أخيراً، يبرز كيان “العراق خيمتنا”، الذي اتُهم بارتباطه بشخصية سياسية تعتبر من رموز أحزاب السلطة في البلاد. إلا أن العضو في “العراق خيمتنا”، وائل الحازم، نفى في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن يكون هذا الكيان الجديد مرتبطاً بأي جهة، مؤكداً “استقلاليته التامة”. ولفت الحازم إلى “وجود كيانات سياسية جديدة تتبرأ من علاقتها بالأحزاب التقليدية، لكن الحقيقة أنها مدعومة بصورة مباشرة منها، كما أن هناك كيانات سياسية تحمل صبغة انتفاضة تشرين، لكن يدعمها مستشارون في رئاسة الوزراء العراقية”.
وعلمت “العربي الجديد” أن تيار “الحكمة” الذي يقوده عمّار الحكيم، تفرع عنه أكثر من كيان سياسي جديد للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة، أبرزها حركة “وعي”، التي يقودها المدير السابق لمكتب زعيم “الحكمة”، صلاح العرباوي، وأقحم فيها عدداً من الصحافيين العراقيين، بعضهم من العاملين في تلفزيون “الفرات” المملوك للحكيم. وكشف أحد المنشقين عن التيار، أن هناك توجيهاً بتشكيل حلقات شبابية جديدة لا تتبع التيار تنظيمياً، بل سياسياً فقط، على أمل أن ينجح أحدها في اختراق البرلمان، والفوز بمقعد أو اثنين فيه، ما يُكسب تيار “الحكمة” مقاعد إضافية.
هذا الأمر ينطبق على حزب “الدعوة الإسلامية”، الذي بدأ باستمالة شخصيات شبابية في بابل وكربلاء وبغداد، لتشكيل حركات مماثلة قد يعلن عن ولادتها خلال الأيام المقبلة، مستوحية شعاراتها وأفكارها من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية.
من جهتهم، رأى مراقبون أن خطوة مثل هذه، ليس من شأنها فقط مصادرة الجهد المدني الشعبي من قبل أحزاب السلطة، بل ستؤدي إلى وأد أي ثقة بين الشارع وبين أيّ حراك وجهد سياسي يولد من ساحات التظاهرات. كما سيؤدي إلى “فوضى حزبية”، والتشويش على أي أفكار جدّية لإنشاء تيارات وحركات مدنية، تنافس أحزاب السلطة.
تيار “الحكمة” بقيادة عمّار الحكيم تفرع عنه أكثر من كيان سياسي جديد للمشاركة في الانتخابات المبكرة
وقال العضو البارز في الحزب الشيوعي العراقي، أيهم رشاد، إن “أحزاب السلطة أكملت خلال الأسابيع الماضية ترتيباتها المتعلقة بتشكيل الكيانات الرديفة التي تمثل ظلّها السياسي، وهناك الكثير من الكيانات السياسية تمّ تسجيلها وفق الإجراءات الأصولية أخيراً بهدف الدخول في سباق الانتخابات المبكرة المنتظرة، على أمل الوصول إلى البرلمان”. وأضاف رشاد، في تصريحٍ لـ”العربي الجديد”، أن “ما يؤكد دعم أحزاب السلطة لهذه الكيانات السياسية الجديدة، هو أن تسجيل الكيان في دائرة الأحزاب والتنظيمات السياسية يُكلف 100 مليون دينار عراقي (نحو 80 ألف دولار)، وهو مبلغ يصعب على مجموعة ناشطين ومتظاهرين تأمينه، وبالتالي فإن تسجيل هذا العدد الكبير من الكيانات السياسية، إنما يدل على دعمٍ ماليٍ من الفاسدين”.
ولفت رشاد إلى أن “مؤسسي هذه الكيانات هم أعضاء في أحزاب تُعرف بفسادها، وبممارسة الانتهاكات والاختلاس، وحتى الإرهاب”، على حدّ قوله، لافتاً إلى أن هذه الجهات “بدّلت خلال الأسابيع الماضية خطابها، وباتت تتحدث عن استقلاليتها، ودعمها لمطالب المتظاهرين الذي يواصلون حراكهم منذ حوالي سنة”. وأكد العضو في الحزب الشيوعي العراقي، أن “الحيلة التي يأمل بعض السياسيين في الولوج عبرها إلى البرلمان، لن تنطلي على الشعب الذي بات أكثر وعياً، وستمنى بالفشل”.
وخلال الأسابيع الماضية، تبرأت أكثر من 10 شخصيات سياسية معروفة بانتماءاتها الحزبية، من أحزابها، مقدمة نفسها على أنها مستقلة، فيما لجأ آخرون إلى انتقاد الأحزاب والفصائل المسلحة، في محاولة للتودد إلى المتظاهرين والناشطين الذين ينشدون الدولة المدنية والعلمانية. وأكد مراقبون، تعليقاً على هذه الظاهرة، على عدم تماشي هذه الحيلة مع حالة الوعي الجديد التي اكتسبتها جماهير الحراك، وعموم العراقيين.
وقال القيادي في ائتلاف “دولة القانون”، كاطع الركابي، إن “بعض أعضاء الكتل والكيانات السياسية باتت لديهم تصورات جديدة للعمل السياسي، وتحديداً بعد التظاهرات الشعبية التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبالتالي هناك من قرّر إعلان استقلاليته عن الأحزاب، والنزول إلى حلبة الانتخابات متحرراً من أي انتماء حزبي”. وأوضح الركابي، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “بعض الذين اعتزلوا العمل الحزبي استعداداً للانتخابات المبكرة، لهم مآرب أخرى، فيما اتفق آخرون مع أحزابهم على انسحاب مؤقت وتكتيكي منها، على أن يعودوا إليها بعد إعلان نتائج الانتخابات”.
وكان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي قد طلب من مجلس النواب الذي صوّت بأغلبية مريحة في ديسمبر/كانون الأول الماضي على قانون الانتخابات الجديد انصياعاً لرغبة المتظاهرين، استكمال قانون الانتخابات المعدل، وتحديداً في ما يتعلق بجدول الدوائر الانتخابية وجغرافيتها في كل محافظة وعددها، وإرساله إلى رئاسة الجمهورية لغرض المصادقة عليه، فضلاً عن إكمال قانون المحكمة الاتحادية. إلا أن تفشي فيروس كورونا، وإصابة عشرات النواب بالوباء، حال دون عقد الجلسات لاستكمال هذه الملفات التي تحتاج إلى نقاش معمق داخل السلطة التشريعية.
وعلى الرغم من أن الحراك الحكومي متواصل لتنظيم الانتخابات المبكرة، والتي تشكل أحد أهم مطالب الحراك والمعتصمين في ساحاتها العديدة، إلا أن تلك الساحات ترفض حصول أي انتخابات في ظلّ استمرار العملية السياسية في البلاد على شكلها الحالي.
زيد سالم
العربي الجديد