لم يعد سؤالنا الجوهري في بلاد العرب هو لماذا تأخرنا بينما تقدم الآخرون، كما طرحه أسلافنا طوال القرنين التاسع عشر والعشرين (منذ وطأت الحملة الفرنسية شواطئ المتوسط المصرية في 1798). بل صار السؤال هو هل سننجو من المحن الراهنة ونظل في عداد الأحياء، وهل تمتلك مجتمعاتنا من الأسباب ما يمكنها من التغلب على الاحتراب الأهلي والعنف والتطرف وانهيار الدول الوطنية هنا وعلى الاستبداد وشيوع الفقر وغياب التنمية بمضامينها الشاملة والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان وحرياته هناك.
لم يعد السؤال الجوهري في بلاد العرب هو كيف يمكن تحديث المنظومات الدستورية والقانونية لضمان مواطنة الحقوق المتساوية دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو النوع، وللفصل بين الدين والسياسة وتنظيم حرية تداول المعلومات وحرية التعبير عن الرأي في الفضاء العام، ولإطلاق الحريات الشخصية والمدنية والسياسية على نحو يسمح للمواطن بالاختيار الحر في فضائه الخاص وفي المساحات التي يشارك بها في الفضاء العام. بل صار السؤال هو هل سينجح العرب في بعض مجتمعاتهم في الحفاظ على شيء من التنظيم الدستوري والقانوني الحديث، وهل سيتمكن عرب آخرون من الابتعاد عن هاوية الدساتير التمييزية والقوانين الطائفية والتأسيس لمواطنة حقيقية. صار سؤال عرب اليوم الجوهري هو هل تستطيع مجتمعاتنا حصار التطرف الفكري والتطرف الديني واستعادة القليل من العقل كمقدمة لتجديد النقاش العام عن تنظيم دور الدين في المجتمع، وكمقدمة ضرورية أيضا لتحرير السياسة من الدين والطائفية والمذهبية ولتحرير الإنسان من قيود التأويل الرجعي للدين وللأنساق القيمية والأخلاقية السائدة.
لم يعد السؤال الجوهري في بلاد العرب هو متى سنتخلص من طبائع الاستبداد ونقيم الدول الوطنية والنظم السياسية التي تجمع بين صون الحرية وتحقيق العدل والكفاءة في إدارة شؤوننا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. لم يعد سؤالنا هو متى سيغيب عن عالمنا الحكام المستبدون ومتى ستتراجع النظم الأمنية والحكومات السلطوية عديمة الكفاءة ويحل محلها ديمقراطيات ناشئة تمتلك الثقة في شعوبها وتتفاعل إيجابيا مع الحضارة المعاصرة. بل صار السؤال هو هل يمكن للمواطن وللمجتمع المدني في بلاد العرب انتزاع القليل من التنازلات من الحكومات السلطوية للحد من المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات هنا أو هل نستطيع الحيلولة دون تكرر جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها ديكتاتور سوريا وترتكبها أيضا يوميا عصابات وجماعات الإرهاب في سوريا وليبيا وغيرهما من بلاد العرب. صار همنا الوجودي هو كيف لنا أن نوقف الهروب الجماعي للشعوب العربية إزاء جرائم وعنف الحكام هنا وبفعل غياب فرص العمل والحياة الكريمة دون عوز وشيوع انتهاكات الحقوق والحريات هناك.
صارت بلاد العرب تعرف كبلاد الانتشار المريع لخرائط الدماء وللحروب التي تذكر بالحرب الثلاثينية في أوروبا القرن السابع عشر حيث تداخلت صراعات السلطة والدين والطائفة والمذهب وامتدت لتحدث في وسط القارة العجوز دمار طويل المدى. صارت بلادنا تعرف كمختبرات مأساوية لتداعيات تفكك الدول الوطنية وانهيار مؤسساتها وللآثار الكارثية لخليط الاحتراب الأهلي والإرهاب والطائفية المقيتة هنا وللاستبداد ولغياب التنمية الشاملة هناك. صرنا كعرب نتصدر القوائم الدولية لأعداد اللاجئين والمهجرين والنازحين والمرتحلين، إن عبر حدود بلادنا وإلى جوارها الإقليمي المباشر أو عبر مراكب الهجرة غير الشرعية بين ضفتي المتوسط التي أنقذت الكثيرين وقضت على حياة وأحلام الكثيرين من الأطفال والشباب والنساء والرجال.
هل نستطيع الحيلولة دون تكرر جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها ديكتاتور سوريا وترتكبها أيضا يوميا عصابات وجماعات الإرهاب في سوريا وليبيا وغيرهما من بلاد العرب؟
تعثرت مسارات التحول السياسي والانتقال الديمقراطي التي أطلقتها الانتفاضات الشعبية في 2011، وعادت الشعوب العربية تواجه هنا استئساد الديكتاتوريات الذين وهناك السطوة الأمنية للحكومات السلطوية الذين يتواصل استئثارهم بالسلطة والثروة أو يعودون إلى الاستئثار بهما بعد فترات انقطاع محدود ويعمدون لممارسة العقاب الجماعي بحق القطاعات السكنية (الشباب والعمال) التي رغبت يوما في الانعتاق من الاستبداد وامتلكت جراءة الحلم بغد حر وعادل وديمقراطي. ولم تفلح الانتفاضات الشعبية في الموجة الديمقراطية الثانية 2019 (الجزائر والسودان ولبنان) في تمكين المواطنين وفي تغيير قواعد اللعبة بينهم وبين الحكام وتكالبت على الانتفاضات قوى الاستبداد والهيمنة الأمنية هنا وقوى الفساد والطائفية هناك.
صار العرب في البلاد التي تتواصل معاناتها من الاحتراب الأهلي أشبه بالقبائل المتفرقة والجماعات المتناحرة التي تتهاوى بين ظهرانيها رابطة الوطنية الحديثة، بينما يعاني عرب البلاد التي تسيطر عليها الحكومات السلطوية من تزييف الوعي العام بالترويج لمقابلة التماهي بين طلب التغيير الديمقراطي وبين الفوضى وبين بقاء الحكام وبين شيوع الأمن. يعطل العقل وتحجب الحقائق والمعلومات عن الناس لكي يسهل الادعاء المتهافت بمسؤولية الانتفاضات الديمقراطية في 2011 و2019 عن عموم خرائط الدماء وجرائم الإرهاب والحروب الاهلية والانتهاكات التي تعصف ببلاد العرب ولكي تبرأ ساحة الديكتاتوريات والسلطويات.
لم نعد نلتفت إلى الدمار المحيط بنا من كل جانب، من حرائق بيروت والشام إلى دمار اليمن وليبيا. لم نلتفت حين صدر تقرير الأمم المتحدة (مكتب الأمين العام) عن «الأطفال والنزاعات المسلحة» والذي يوثق للمعاناة التي يواجهها صغار السن في مناطق الحروب الأهلية والصراعات العسكرية بين الدول وفي المجتمعات التي ترتكب حكوماتها جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وتفرض على السكان الارتحال والنزوح واللجوء. يوثق التقرير لحقيقة أن الأطفال السوريين واليمنيين والليبيين هم الأكثر معاناة وتعرضا لجرائم الحروب بين أقرانهم العرب. جرائم الإبادة والإرهاب في سوريا قتلت أكثر من ربع مليون إنسان بينهم الكثير من الأطفال، ودمرت البنى التحتية كالمدارس والمستشفيات، ودفعت ملايين السوريين إلى النزوح إلى مناطق إقليمية مجاورة أو البحث عن ملاذات آمنة بهجرة غير شرعية وطلب اللجوء. ما يحدث للأطفال في سوريا يتكرر على نحو مماثل في اليمن وليبيا.
يوثق التقرير الأممي لمعاناة أطفال البلدين من جراء الاقتتال الأهلي المستمر وبسبب وحشية وعنف عصابات الإرهاب. ينتهك حق الأطفال في الحياة، وتدمر البنى التحتية التي يحتاجها الناجون للحياة كالمدارس والمستشفيات وتفرض عليهم أيضا السخرة العسكرية في بعض المناطق، وتتراجع أيضا تحت ضغط زيادة أعداد النازحين واللاجئين خدمات التعليم والرعاية الصحية والنفسية المقدمة للأطفال في المخيمات والمعسكرات. لم نلتفت لأن الإعلام في بلاد العرب تسيطر على أغلب مساحاته إما الحكومات أو الأموال المتحالفة معها والطرفان يوغلان في إنكار معاناة الشعوب، لم نلتفت لأن النقاش العام في بلادنا بات يخلو من العقل وصار يتفلت من الانشغال بمستقبلنا الذي يوما سيصنعه أطفال الحروب الأهلية واللجوء والملاذات الآمنة.
صار عرب اليوم مجددا ضحايا ارتكان السياسة العالمية إلى المقولة العنصرية «لا يملك هؤلاء الأهلية لبناء الديمقراطية والحياة في مجتمعات تعددية ومتسامحة» ومن ثم وكما تخلى العالم عن الحق المشروع للشعب الفلسطيني في تقرير المصير يتخلى أيضا عن الحق المشروع للعرب في الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية الشاملة. تعود السياسة العالمية اليوم إلى خانات تفضيل رفض التغيير وتأييد بقاء الحكام وقبضتهم الأمنية كبديل وحيد لمنع انتشار الإرهاب وإيقاف تصاعد معدلات العنف ومواجهة خطر الفوضى والسيطرة على موجات الهجرة غير الشرعية.
عمرو حمزاوي
القدس العربي