تبادل مصالح أم تطبيع بين السودان وإسرائيل

تبادل مصالح أم تطبيع بين السودان وإسرائيل

نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو (حميدتي) سعى للبحث عن مخارج لفتح الباب أمام تطبيع العلاقة مع إسرائيل من بوابة المصالح التي ستعود على بلاده بعيدا عن الشعارات والنظرية السلبية التي ينطلق منها أغلب المعارضين لهذه الخطوة. وفي مخرج للخلاف السياسي حول هذا الملف حث حميدتي على الالتجاء للشعب لحسم هذا الأمر الخلافي، وبالتالي رفع الحرج عن الجميع.

قدم نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو (حميدتي)، مخرجا سياسيا مناسبا لبلاده لحل مشكلة التطبيع مع إسرائيل، التي تصاعد الحديث عنها مؤخرا، وبدا رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب مرهونا بها، واعترف حميدتي، الجمعة، بأن بلاده ترغب في إقامة علاقات مع إسرائيل، وليس تطبيعا، للاستفادة من إمكانياتها المتطورة، مشددا على أننا “مواصلون في هذا الخط”.

ويؤكد هذا الاعتراف أن الخرطوم ماضية بصورة عملية في العلاقة مع تل أبيب، وأن التصريحات التي صدرت عن مسؤولين وقوى سياسية برفض الربط بين الجانبين غير دقيقة، وأن هناك ما يشبه التوافق الخفيّ بين الكثير من الأطياف بشأن أهمية الخطوة، التي تحدّد مصير الكثير من القضايا في السودان، لكن الخلاف يدور حول طريقة إخراجها سياسيا.

وقدم حميدتي ما يمكن وصفه بالطريقة التي تتماشى مع المواطنين، ويمكن أن ترفع الحرج عن مجلس السيادة، ورئيسه الفريق أول عبدالفتاح البرهان، الذي تباحث في الإمارات الشهر الماضي مع مسؤولين أميركيين بشأن رفع اسم بلاده من قوائم الإرهاب ومسألة التطبيع مع إسرائيل.

غير أن الإعلان عن الصفقة تأجل إلى إشعار آخر، بعد أن ارتفعت أصوات في الخرطوم رافضة أو متحفظة، ودخلت على الخط جهات عربية أحدثت تشويشا متعمدا.

انحياز أميركي
يرى البرهان، وعدد كبير من المسؤولين، أن التطبيع مفتاح سحري لحسم التردد الأميركي في رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب، ومدخل للحصول على مساعدات اقتصادية، ومن الضروري الاستفادة من ذلك لتجاوز جانب معتبر من الأزمات الراهنة.

ولدى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب خيار سياسي اختبر في مصر، مفاده أن التعامل مع القيادات ذات الخلفيات العسكرية أفضل، والتفاهم معها سياسيا في كثير من الأمور المعقدة أسهل من القيادات المدنية، وهذا الاتجاه يبدو حاضرا في الحسابات الإسرائيلية، ويعد تأييد المكون العسكري، البرهان وحميدتي، لكسر الجمود مع إسرائيل إضافة نوعية لاستمرارهما في السلطة الانتقالية.

وقد يضمن هذا الخيار مكانا سياسيا بعدها للبرهان وحميدتي، إذا مضت التصورات كما هو مخطط لها، بمعنى حصد نتائج إيجابية متعددة في الداخل من وراء ثمار العلاقة مع إسرائيل، وكبح أيّ ممانعات منتظرة حيال المتاجرة بالدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في السودان، وتهيئة الأجواء لتقبل قائد منها بثياب مدنية، على غرار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

ورمى رئيس الحكومة السودانية عبدالله حمدوك، بالكرة في ملعب القوى السياسية، فمع تأييده الضمني للخطوة، فقد خشي، مثل البرهان، أن تعطي الخطوة قبلة حياة جديدة لقوى معارضة، في مقدمتها أنصار نظام الرئيس السابق عمر البشير الذين يجدون في التطبيع ورقة قوية للضغط على السلطة الانتقالية وافتعال المشكلات معها، مع أن حميدتي قال إن البشير أبلغه صراحة من قبل بأنه سيطبّع مع إسرائيل.

وحلاّ لأزمة الجهة التي تمنح صك الاعتراف الرسمي بإسرائيل، وضع حمديتي بمهارة الكرة في ملعب الشعب، حيث دعا إلى معرفة آراء الشارع السوداني بشأن إقامة علاقات معها، قائلا “الشعب السوداني يقرر بعد استطلاع رأي عام”، ويخرج بذلك جميع أقطاب السلطة في الخرطوم من إشكالية أرّقتهم الأسابيع الماضية.

وتمثل دعوة حميدتي جس نبض للفكرة، التي لم تلق معارضة واضحة بعد الإعلان عنها، وهو يدرك أن النتيجة سوف تأتي كما يريد، فالأزمات الحادة أثقلت كاهل قطاع كبير من المواطنين، وهم بحاجة إلى وسيلة ناجعة لتخفيفها سريعا، حتى لو كانت العلاقات مع إسرائيل هي الأداة المفيدة في هذه المرحلة.

وتلاعب نائب رئيس مجلس السيادة بالألفاظ عندما شدد على إقامة علاقات، وليس تطبيعا، بعد أن اكتست الكلمة الأخيرة معاني سلبية في القاموس السياسي العربي، وصنفها البعض على أنها “تنازل مجاني لإسرائيل” يضر بالقضية الفلسطينية.

وأحرج الرجل الحركة الإسلامية في السودان، التي تعتبر النظام التركي بقيادة رجب طيب أردوغان نموذجا جيدا للحكم الذي تريده للبلاد، لأن أنقرة تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، ومن أوائل الدول التي اعترفت بها، وتملك شبكة عميقة من التعاون الاقتصادي والعسكري مع تلّ أبيب، وتنكر أنها تقيم تطبيعا مع إسرائيل ويرتفع صوتها بالصخب أحيانا دفاعا عن القضية الفلسطينية.

وألمح حميدتي إلى صيغة بهذا المعنى وقت أن تحدث عن مصالح بلاده والدول التي تربطها حدودا مع إسرائيل، وإذا كان الإسلاميون يرفضون الخطوات التي تقوم بها الخرطوم باتجاه العلاقات السياسية مع تل أبيب، عليهم أولا أن يعلنوا موقفهم مما تفعله أنقرة، ويتبرأون من دعمها واحتضانها لهم، ويفكوا تحالفهم معها.

تحاشي الأخطاء السياسية
ضربت هذه الإشارة عدّة عصافير بحجر واحد، فتحت بابا للخرطوم للمضيّ في إقامة علاقات مع تل أبيب ربما بأقل قدر من الضجيج السياسي، وألجمت معارضي الخطوة.

وتحاشت السلطة قسوة النغمة التي استخدمها البعض لرفض التطبيع بين كلّ من الإمارات والبحرين وإسرائيل، ووضعت القضية في سلة المصالح والمنافع المتبادلة، كبوصلة تحدد السخونة والبرودة، وأبعدت السودان عن خندق التنازلات السياسية، في إشارة إلى استعادة التجربتين المصرية والأردنية.

وقّعت كل من القاهرة وعمّان اتفاقية سلام مع تل أبيب، وأقامتا علاقات دبلوماسية معها، غير أن السلام والعلاقات ما زالا باردين، ولم يؤثّرا سلبا في غالبية المواقف السياسية والعسكرية التي تعتدي فيها إسرائيل على حقوق الفلسطينيين، وعلى العكس ترتفع في كلّ من البلدين أصوات رافضة للانتهاكات الجارية في الأراضي المحتلة، أكثر من العديد من الدول (تركيا وقطر) التي تتظاهر بأنها تقف في خندق المقاومة ضد إسرائيل.

تتجاوز عملية إقامة علاقات بين الخرطوم وتل أبيب الحدود الظاهرة لرفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، والحصول على مساعدات اقتصادية، ومكاسب سياسية من واشنطن والمجتمع الدولي، وتصل إلى مستوى آخر لم تظهر معالمه تماما بعد، لكنه قد لا يغيب عن خيال السلطة في الخرطوم، ويتعلّق بما نسجته إسرائيل من علاقات تاريخية متطورة مع الجارة إثيوبيا.

يريد السودان إحداث قدر من التوازن في هذه المعادلة، ففي ظل طموحات أديس أبابا لتكون رقما إقليميا مهمّا، ورغبتها في أن يكون سدّ النهضة مشروعا تتجاوز أهميته التنمية والكهرباء والاستفادة من المياه عموما، إلى حلقة من حلقات القوة الإثيوبية الصاعدة في الإقليم، والتي تمثل إسرائيل أحد الداعمين لها.

إذا نجحت الخرطوم سوف تصبح ضمن هذه المعادلة وتحصد منها بعض الفوائد ويمكن أن تتجنب الكثير من الآثار السلبية للطموحات الإثيوبية في المستقبل، حتى ولو كانت الحكومة الحالية في أديس أبابا تتمتع بعلاقات طيبة مع الخرطوم.

يبدو أن الطبقة السياسية في السودان تجد في إسرائيل فرصة لتعظيم الفوائد التي يمكن أن تحصل عليها من واشنطن وحسمت أمرها في هذا المجال. فوسط الأزمات المتصاعدة بالداخل والتحديات المحيطة بالدولة في الخارج وضيق الخيارات السياسية، تجد السلطة الانتقالية أن هذه القناة يمكن أن تساعدها على تخطّي جملة من العقبات وترسّخ قطيعتها مع الماضي وميراثه القاتم، وكل ما انطوى عليه من مشكلات، لعبت دورا حيويا في الحالة الغامضة التي وصل إليها السودان الآن.

العرب