شهدت الولايات المتحدة في الربع الثاني من هذا العام أكبر إنخفاض في المدخرات المحلية(Domestic Savings) على الإطلاق منذ عام 1947، بالإضافة إلى عجز في ميزان الحساب الجاري(Current Account Balance Deficit) ، والذي يشيرا معا إلى بداية هبوط سعر الصرف الفعلي للدولار الامريكي في الأسابيع والأشهر القادمة، حيث دخل الدولار الأمريكي الآن في المراحل الأولى لما يبدو أنه سيكون ‘هبوط حاد’ بالنسبة لسلة العملات العالمية.
من المؤكد أن التراجع الأخير للدولار يعكس جزئيًا الإرتفاع (بنسبة 7٪) الذي حصل ما بين فبراير إلى أبريل 2020، حيث إستفاد الدولار خلال تلك الفترة من الهروب إلى الأمان(Flight to Safety) الذي أطلقه التوقف المفاجئ في الإقتصاد العالمي والأسواق المالية العالمية نتيجة إغلاق الكورونا، وحيث لا تزال العملة الأمريكية هي العملة الرئيسية الأكثر المبالغة في تقدير قيمتها في العالم(Most Over-Valued Currency in the World) .
بناء على ما ذكر اعلاه، تشير العديد من التوقعات بأن ينخفض مؤشر الدولار بنسبة قد تصل ما بين15٪ و 20٪ بحلول نهاية عام 2021 بسبب ثلاثة اعتبارات رئيسية كما يلي: (1) التدهور السريع في إختلالات الإقتصاد الكلي في الولايات المتحدة، (2) صعود اليورو والرينمينبي كبدائل قابلة للتطبيق في التجارة العالمية، و (3) نهاية ‘الهالة الخاصة’ من الإستثنائية الأمريكية التي أعطت الدولار مرونة غير مسبوقة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
إن إلتقاء الإنخفاض غير المسبوق في المدخرات المحلية مع عجز الحساب الجاري ليس أقل من مذهل، حيث إنخفض معدل الإدخار الوطني الصافي )الذي يقيس معدل الإدخار المشترك حسب الإستهلاك للشركات والأسر والقطاع الحكومي( إلى المنطقة السلبية عند )سالب1٪( في الربع الثاني من عام 2020، والذي لم يحدث منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2008 – 2009 عندما إنخفض صافي المدخرات الوطنية إلى المنطقة السلبية لمدة تسعة أرباع متتالية، بمتوسط (سالب 1.7٪) من الربع الثاني من عام 2008 إلى الربع الثاني من عام 2010. لكن أهم جانب في هذا التطور هو سرعة الانهيار في الربع الثاني لعام 2020 حين إنخفض صافي معدل الادخار ب 3.9 نقطة مئوية عن قراءة ما قبل كوفيد وحيث يعد هذا أكبر إنخفاض في المدخرات المحلية في أي ربع على الإطلاق منذ عام 1947.
ولا يخفى على أحد أن COVID-19 تسبب في البداية في زيادة مؤقتة في المدخرات الشخصية التي تجاوزها التوسع القياسي في عجز الميزانية الفيدرالية، حيث تضمن قانون المساعدة والإغاثة والأمن الاقتصادي لفيروس كورونا ( (CARES ACT) شيكات إغاثة بقيمة 1200 دولار لمعظم الأمريكيين، بالإضافة إلى التوسع الحاد في مزايا التأمين ضد البطالة، وكلاهما عزز معدل الادخار الشخصي إلى 33.7٪ في أبريل 2020.
ولكن في غياب إستمرارية هذه الحقن الاستثنائية، تراجع معدل الإدخار الشخصي بسرعة إلى 17.8٪ في يوليو2020، ومن المتوقع أن ينخفض بشكل أكثر حدة مع إنتهاء صلاحية إعانات البطالة الموسعة مؤخرًا. ومع احتمال تراجع المدخرات الشخصية بشكل حاد في الأشهر المقبلة وإنفجارعجز الميزانية الفيدرالية الى نحو 16٪ من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية الحالية وفقًا لمكتب الميزانية في الكونجرس، فإن الإنخفاض في صافي المدخرات المحلية في الربع الثاني من عام 2020 لا يمثل سوى تلميح لما هو قادم.
كل ما ذكر أعلاه من تحديات ليس هو فقط نظرية إقتصادية بل مجرد محاسبية بسيطة و مثبتة علميا لعلاقة عدة مؤشرات رئيسية في الإقتصاد، و الذي تم تأكيد صحتها و حجمها في اخر إصدارلإحصاءات المعاملات الدولية الأمريكية للربع الثاني من عام 2020 حيث اتسع عجز الحساب الجاري إلى 3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي وهو الأسوأ منذ 4.3٪ عجز في الربع الرابع من عام 2008 خلال الأزمة المالية العالمية.
أخيراً، ليس فقط الإدخار المزعزع والإختلالات في الحساب الجاري هي التي ستفرض ضغوطًا “هبوطية” على الدولار، بل يُعد التحول الأخير في إستراتيجية سياسة الإحتياطي الفيدرالي(Federal Reserve) عنصرًا جديدًا ومهمًا في هذا المزيج، حيث سيعتمد الإحتياطي الفيدرالي إلى نهج إستمرار أسعار الفائدة الصفرية لفترة أطول مما كان يعتقد سابقًا. و هذا التحيز الجديد نحو التسهيل النقدي(Monetary Easing) يغلق فعليًا خيارًا مهمًا – التعديلات التصاعدية لأسعار الفائدة – الذي خفف منذ فترة طويلة من تراجع العملة في معظم الاقتصادات والذي سيضع مزيدًا من الضغط على الدولار المتراجع.
بإختصار، إن الملزمة تضيق على الدولار الذي لا يزال مبالغًا فيه، ولا يجوز أن نتوقع من بنك الاحتياطي الفيدرالي (الذي يركز على دعم أسواق الأسهم والسندات أكثر من التركيز على مواجهة التضخم) لإنقاذ الموقف.
لقد بدأ انخفاض الدولار للتو.
فواز يوسف غانم
الغد