في 26 حزيران/ يونيو الماضي أصدرت قيادة العمليات المشتركة بيانا قالت فيه إنه «توفرت معلومات استخبارية دقيقة عن الأشخاص الذين سبق وان استهدفوا المنطقة الخضراء ومطار بغداد بالنيران» وانه قد «تم تحديد أماكن تواجد المجموعة المنفذة لإطلاق النيران» وأن مذكرة قبض أصولية صدرت بحقهم، وأن «جهاز مكافحة الإرهاب نفذ المهمة بمهنية عالية ملقيا القبض على أربعة عشر متهما، وهم كامل عديد المجموعة، مع المبرزات الجرمية المتمثلة بقاعدتين للإطلاق». ثم تحدث الناطق باسم الحكومة في اليوم التالي، عن العملية التي كانت، كما قال: «استباقية هدفها حفظ هيبة الدولة، وهي عملية عراقية التخطيط والتنفيذ والإشراف من الألف إلى الياء».
كانت تلك المواجهة الأولى مع مطلقي الكاتيوشا، أو بالأحرى مع من يقف خلفهم، فالمطلقون هنا مجرد أدوات لا أكثر! فبعد ساعات من تلك العملية، اتضح للجميع أن هذه الخطوة قد أغضبت الواقفين خلف عمليات القصف، واستطاعوا أن يفرضوا شروطهم بطريقة محرجة، اختصرتها صور السيد رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة وهي تداس بأقدام «جنوده» المفترضين!
على مدى أكثر من 17 شهرا من استهداف محيط سفارة الولايات المتحدة في المنطقة الخضراء، والقواعد العسكرية، والمطارات، وشركات النفط (كانت أول عملية في 19 أيار/ مايو 2019) كان واضحا عجز الدولة عن مواجهة مطلقي الكاتيوشا ومن يقف خلفهم، فلم يجرؤ رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة حينها على مواجهة الأمر، واكتفى بالحديث عن « تشكيلات مسلحة أو استخدام أراضي العراق لأعمال مسلحة ضد أهداف ودول وقوى خارج إرادة الدولة العراقية» دون أن يسميها! وليقرر منع أية قوة مسلحة من العمل «خارج إطار القوات المسلحة العراقية أو خارج إمرة وإشراف القائد العام للقوات المسلحة أو من أن تكون لها حركة أو عمليات أو مخازن أو صناعات خارج معرفة وإدارة وسيطرة القوات المسلحة العراقية وتحت إشراف القائد العام». وقد استتبع ذلك صدور الأمر الديواني رقم الأمر الديواني 237 بتاريخ 1 تموز/ يوليو 2019، وكتبنا حينها أن هذا الأمر الديواني، كسابقيه اللذين صدرا في عهد حيدر العبادي، لن ينجح في ضبط الكثير من فصائل الحشد التي ترتبط عقائديا وتنظيميا بولاية الفقيه والحرس الثوري الإيراني، والتي تحظى بغطاء سياسي، وحصانة سياسية ولن تلتزم بما تقرره الدولة العراقية!
بعد المواجهة الفاشلة مع مطلقي الكاتيوشا، كان لافتا أيضا استمرار عجز الدولة بكامل سلطاتها، عن توصيف مطلقي صواريخ الكاتيوشا بالإرهابيين، او توصيف أفعالهم بالأفعال الإرهابية، فقد حرصت الدولة، ورئاساتها، وأجهزتها العسكرية والأمنية، على توصيف هذه الأفعال بالأفعال «الخارجة عن القانون» وتوصيف مطلقيها بـ «الخارجين عن القانون»! ولم يكن جزءا من سياق استخدامات الجولة الطائفية لتوصيف الفعل وتجريمه تبعا لهوية فاعله، وليس تبعا لطبيعة الفعل نفسه (وهذا سياق اعتمدته الدولة الطائفية في العراق منذ العام 2006 على أقل تقدير). كما لم يكن الأمر مجرد تواطؤ مع من يوفر لهم الغطاء السياسي والحصانة داخليا، ومن يقف خلفهم خارجيا، بل محاولة لترك الباب مفتوحا على وسعه للاتفاق معهم، أو على الأقل «هدنة» إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية!
قرار مواجهة هذه الدولة/ السلاح الموازي، المغطى سياسيا، واجتماعيا، هو قرار تمتلكه الحكومة العراقية في أي وقت، ومن الواضح أن الفاعل السياسي الشيعي لايزال مصرا على الإبقاء على هذه الدولة/ السلاح الموازي، وتغطيته، وتحصينه، ثم فرض شروطه بالنهاية
ولكن ما كان لافتا، لقاء جينين هينيس ـ بلاسخارت، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في العراق ورئيسة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) يوم الخميس الماضي، وهي ترتدي وشاحا أصفر، برئيس أركان هيئة الحشد الشعبي عبد العزيز المحمداوي (المعروف بكنيته «أبو فدك» وبلقبه «الخال») الذي يشغل في الوقت نفسه منصبا قياديا كبيرا في كتائب حزب الله المصنفة أمريكيا كمنظمة إرهابية، وبالتأكيد من السذاجة الاعتقاد بأن هكذا لقاء قد تم دون ضوء أخضر من الأمريكيين أنفسهم، إذا لم يكن اللقاء قد تم بطلب منهم من الأصل! وفي معرض «تسويغها» لهذا اللقاء، نشرت (يونامي) تغريدة على صفحتها على تويتر لتخبرنا أن «الحوار هو الحل الوحيد، والتخويف والعنف ليس طريقا للمضي قدما أبدا»!
ولكن يونامي لم تكمل لنا «درسها» فيما يتعلق بأطراف هذا الحوار، وأهدافه؟ ولم «تعلمنا» كيف يكون هذا الحوار «الحيادي والمستقل» مع مجموعات/ فصائل/ مليشيات تستخدم العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، ومتهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ترقى لأن تكون جرائم حرب، كما وصفتها تقارير البعثة نفسها لسنوات، «الحل الوحيد» أم أن ما تقوله مجرد خطاب «براغماتي» يشكل غطاء للحوار نيابة عن الأمريكيين، مع مستخدمي الكاتيوشا في العراق، ومع من يقف خلفهم، وبالتالي لا ينطبق على غيرها؟
طوال سنوات قلنا إن بعثة يونامي في العراق ليست أكثر من «شاهد زور» وأن طلب تشكيلها بموجب قرار مجلس الأمن 1483 الصادر في 22 أيار/ ماي 2003، كان نتيجة إرادة أمريكية لاستخدام الأمم المتحدة كأداة لتمرير استراتيجيتها في العراق حينها. ثم لتتحول المهمة الرئيسية لهذه البعثة، كما تم تحديدها في قرار مجلس الأمن القرار رقم 1770 الصادر في عام ،2007 إلى مجرد «جهة استشارية داعمة ومساعدة» خاضعة لإرادة الحكومة العراقية وليس لها أي قدرة ذاتية على الفعل أو الحركة! وفي سياق هذه التحولات، كانت البعثة حريصة على عدم إغضاب أحد، سواء في ذلك الأمريكيون (كانت التقارير الخاصة بحقوق الإنسان في العراق لا تمر من دون موافقة السفارة الامريكية عليها) أو الحكومة العراقية لاحقا، على حساب موضوعية تقاريرها ودقتها!
في يوم 3 تشرين الأول/ اكتوبر أصدر رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي قرارا بتشكيل لجنة برئاسة مستشار الأمن الوطني وعضوية رئيس هيئة الحشد الشعبي، ورئيس جهاز الأمن الوطني، ورئيس أركان الجيش، وعضوية ضباط كبار في وزارة الدفاع والداخلية والمخابرات، للتحقيق فيما أسماه البيان «الخروقات التي تستهدف أمن العراق وهيبته وسمعته والتزاماته الدولية وتحديد المقصر» وأعطيت للجنة مهلة 30 يوما لإنجاز تحقيقها، وبالتأكيد ليس ثمة مصادفة أن تاريخ انتهاء أعمال اللجنة سيكون يوم إجراء الانتخابات الأمريكية، وهو ما يعزز فرضية «الهدنة» التي سعت اليها يونامي بلقائها أبو فدك المحمداوي، مع يقيننا بأن هذه اللجنة لن تحدد المقصر، ولن تجرؤ على تسميته!
منذ سنوات ونحن نكتب ونحذر من أن الدولة الموازية/ السلاح الموازي في العراق كانت صناعة الفاعل السياسي الشيعي لضمان احتكار السلطة في العراق، وأن إيران كانت فاعلا رئيسيا في تحقيق هذه الفكرة، وبالتالي لا يتوهم أحد أن قرار مواجهة هذه الدولة/ السلاح الموازي، المغطى سياسيا، واجتماعيا، هو قرار تمتلكه الحكومة العراقية في أي وقت، ومن الواضح أن الفاعل السياسي الشيعي لايزال مصرا على الإبقاء على هذه الدولة/ السلاح الموازي، وتغطيته، وتحصينه، ثم فرض شروطه بالنهاية!
يحيى الكبيسي
القدس العربي