ألمانيا أكبر الاقتصادات الأوروبية، والرابع عالميا، يعتمد اقتصادها بشكل رئيس على البحث والابتكار، ما يوجد لديها ميزة ضخمة في القدرة على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة من جميع أنحاء العالم.
نحو 4 في المائة من إجمالي الاستثمارات العالمية المباشرة يتدفق إلى ألمانيا، ويعمل بها 45 ألف شركة أجنبية، توظف نحو ثلاثة ملايين شخص، وواحد من كل أربع وظائف في ألمانيا يعتمد على الصناعات التصديرية.
وأصبح الاقتصاد الألماني في الوقت الحالي أكثر قدرة على المنافسة مقارنة بما كان عليه في السابق، فقد آتت الإصلاحات الهيكلية أكلها، كما أن التغييرات التي أدخلت على النظام الضريبي وواقعية ومرونة المعدلات الضريبية أثبتت نجاعتها، فالبنية الأساسية تعد من الطراز الأول حتى بمعايير الاقتصادات المتقدمة، ونظم التمويل الحديثة، إضافة إلى امتلاك سوق ضخمة للمستهلكين، وجميعها بمنزلة عوامل جذب للاستثمارات الأجنبية لا يمكن الاستهانة بها.
مع هذا لا تبدو صورة المناخ الاستثماري في ألمانيا وردية من وجهة نظر عديد من خبراء الاستثمار في ظل سياسة الأبواب المغلقة في القطاعات الاستراتيجية.
تقول لـ”الاقتصادية”، روهينا داس الخبيرة الاستثمارية، “على الرغم من أن عوامل جذب رؤوس الأموال الأجنبية متوافرة في الاقتصاد الألماني، فإن عملية بدء نشاط استثماري أمر شديدة التعقيد في ألمانيا حاليا، حتى مقارنة باقتصادات أقل منها نموا وتطورا، فألمانيا على الرغم من مكانتها العالمية واقتصادها الحديث تحتل وفقا للبنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية المرتبة الـ106 في العالم لسهولة بدء نشاط تجاري، ويرجع ذلك إلى عديد من الإجراءات الواجب القيام بها من قبل الشركات الراغبة في الاستثمار في السوق الألمانية”.
وتضيف، “البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية يصنفان ألمانيا أيضا باعتبارها رقم 100 عالميا من حيث حماية المستثمرين، وعلى الرغم من اتخاذ الحكومة خطوات لتحسين تصنيفها، عبر قانون تعزيز حماية المستثمر وتحسين وظائف سوق المال، فإن ألمانيا لا تزال أمامها خطوات طويلة لا بد أن تقطعها في هذا المسار”.
قد يعتقد البعض أن هذا التقييم غريب بعض الشيء في ضوء مكانة الاقتصاد الألماني عالميا وأوروبيا، لكن تحديدا تلك المكانة هي ما جعل الحكومة الألمانية تتبنى في الآونة الأخيرة مجموعة من الإجراءات، يرى الخبراء أنها ستجعل النظرة المستقبلية للاستثمار الأجنبي في ألمانيا متقلبة.
فقد وافق مجلس الوزراء الألماني على مشروع قانون يهدف إلى تشديد نظام مراقبة الاستثمار الأجنبي في البلاد، وعلى الرغم من أن تاريخ مشروع القانون يعود إلى ما قبل أزمة فيروس كورونا، فإن إصداره إثر تفشي الفيروس على المستوى العالمي كان له مبرراته من وجهة نظر الخبراء الأوروبيين.
البروفيسور ألكس كريس أستاذ الاقتصاد الدولي والمتخصص في الاقتصاد الأوروبي في جامعة جلاسكو، يوضح رؤية الجانب الألماني في هذا الشأن بالقول، “لا تزال ألمانيا بشكل عام دولة ترحب بالاستثمارات الأجنبية، وتعتمد عليها لدفع النمو الاقتصادي، لكن الموقف الأقل مرونة تجاه تلك الاستثمارات الذي ظهر في الآونة الأخيرة، ما هو إلا جزء من جهود ترمي إلى حماية الشركات الأوروبية عامة والألمانية تحديدا، مما تعده الحكومة الألمانية مزايا تنافسية غير عادلة يتمتع بها المستثمرون الأجانب”.
ولمزيد من الإيضاح، يشير البروفيسور ألكس كريس تحديدا إلى موقف الرأي العام والسياسيين الألمان ما يعدونه خطرا من قبل الشركات الصينية التي تروج لنفسها باعتبارها شركات خاصة، لكنها في حقيقة الأمر مدعومة من الحكومة الصينية، ولديها رغبة في الاستحواذ على شركات التكنولوجيا الفائقة في أوروبا وألمانيا.
وفي الواقع فإن ألمانيا تخشى من أن يستفيد المستثمرون من خارج الاتحاد الأوروبي، من التقييمات المنخفضة للشركات الألمانية نتيجة التراجع في الوضع الاقتصادي بسبب تفشي فيروس كورونا، وينقضون على الشركات ذات الطابع الاستراتيجي للاستيلاء عليها.
ومن ثم فإن أبرز التداعيات السلبية التي ستشهدها ألمانيا خلال الفترة المقبلة ستبرز في مجال أنشطة الاندماج والاستحواذ، ما قد يزيد الوضع الاقتصادي تراجعا، وعلى الرغم من أن الحكومة الألمانية سيكون لها سلطة تقديرية كبيرة للتدخل في أنشطة الاستحواذ، التي لها علاقة بشركات ألمانية، فإن طبيعة التعاون القائم بين ألمانيا والدول الأوروبية خاصة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، يزيد من عدم اليقين بشأن الصفقات الدولية التي يمكن أن تؤثر في ألمانيا، حتى عندما لا تكون ألمانيا مركز ثقل تلك الصفقات.
وربما تكون تلك المخاوف الألمانية، خاصة أنها تترافق مع ضغوط من الولايات المتحدة للحيلولة دون شراء الصين لشركات التكنولوجيا الفائقة على المستوى الأوروبي عامة والألماني خاص، السبب وراء اتخاذ الحكومة الألمانية قرارات بضرورة قيام المستثمرين الأجانب بالإخطار بطبيعة المعاملات الاستثمارية التي سيقومون بها في ألمانيا، وهو ما لم يكن يتم في الماضي.
يضاف لذلك قيام الحكومة الألمانية مستقبلا بمراجعة الاستثمارات الأجنبية لديها، مع الأخذ في الحسبان مصالح الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن قرار الموافقة على أي تدفقات للاستثمارات الأجنبية سيأخذ وقتا أطول.
وفي الحقيقة فإن الاستحواذ على شركة الروبوتات الألمانية “كوكا” من قبل شركة ميديا الصينية عام 2016، كان بمنزلة نقطة التحول في علاقة ألمانيا بالاستثمارات الأجنبية، إذ فجرت عملية الاستحواذ الصيني قلقا ألمانيا واسعا بشأن الطبيعة المتحررة والمتساهلة بشكل مفرط في القوانين المنظمة للاستثمارات الأجنبية في ذلك الوقت، ونظرا لأن تلك القوانين لم تساعد الحكومة حينها على وقف الصفقة شديدة الحساسية، فإن ألمانيا بدأت في العام التالي مباشرة أي في عام 2017 تشديد قواعد الاستثمار الأجنبي المباشر.
وبالفعل في تموز (يوليو) عام 2018 حاولت شركة إس جي سي الصينية شراء حصة 20 في المائة من شركة 50 هرتز مشغل نظام نقل الكهربائي في ألمانيا، ولأن قواعد الاستثمار الأجنبي المباشر تطبق فقط عندما يتم الحصول على 25 في المائة أو أكثر من حقوق التصويت، فلم تتمكن الحكومة الألمانية منع عملية الاستحواذ، ما دفعها إلى مزيد من التشديد لقواعد الاستثمار الأجنبي المباشر، لتنجح لاحقا في إفشال صفقة حساسة عندما أرادت شركة صينية الاستحواذ على شركة ألمانية تنتج مواد عالية التقنية للقطاع النووي.
مع هذا يرى ستون باسيت الخبير المصرفي أن ألمانيا تعاملت بحكمة في أسلوب تقييد حركة رؤوس الأموال الأجنبية.
ويقول لـ”الاقتصادية”، إن “الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في جزء كبير منها ذات طابع بيروقراطي ويتعلق بالمدة الزمنية للموافقة على المشروع، أو طبيعة الأوراق المطلوبة، لكنها في الوقت ذاته لديها قطاع مالي يعمل ضمن بيئة قانونية منضبطة، بحيث يكون الحصول على الائتمان البنكي عملية بسيطة وسريعة، وهو ما يشجع رؤوس الأموال والمستثمرين الأجانب”.
ويعتقد الخبراء أن الإجراءات الألمانية ربما لن تحول تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة على ألمانيا، لكنها قد تعيد توجيهها إلى قطاعات دون أخرى، في ظل القيود التي باتت أكثر تشددا في القطاعات الاستراتيجية، وربما يكون قطاع السلع الاستهلاكية أحد أكثر القطاعات الذي يتوقع أن تتجه إليه رؤوس الأموال الأجنبية، يضاف لذلك قطاع السياحة.
مع هذا يرى بعض الاقتصاديين أن تلك القطاعات وعلى الرغم من أهميتها الاقتصادية، فإن قدرتها على جذب استثمارات ضخمة سيظل محدودا مقارنة بالصناعات الاستراتيجية ومنتجات التكنولوجيا العالية.
هشام محمود
الاقتصادية