القضاء في الدول العربية أمام تحدي ضمان استقلاليته

القضاء في الدول العربية أمام تحدي ضمان استقلاليته

تكفل معظم دساتير الدول العربية الاستقلالية المطلقة للقضاء، وتنص قوانينها على ضرورة تمكين القضاة من البت في القضايا المعروضة عليهم من دون ضغوط أو قيود، غير أن ما هو مدون على الورق لا ينطبق على ما هو سائد في الواقع، إذ لا تزال الأنظمة القضائية تواجه تحديات كبيرة وخطيرة، لاسيما في ما يتعلق باستقلال القضاة والمدعين العامين والمحامين، وحصول المواطنين على العدالة وحماية حقوق الإنسان، وفاعلية النظم القضائية في منع النشاطات الإجرامية والإرهابية وتفشي الفساد.

تكفل معظم الدول العربية الاستقلالية المطلقة للسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية والتشريعية، وتنص دساتيرها على ضرورة تمكين القضاة من البت في القضايا المعروضة عليهم من دون ضغوط أو قيود، لحماية حقوق الإنسان وتكريس سيادة القانون.

ويؤكد الخبراء أن القضاء العادل يلعب دورا كبيرا في الازدهار الاقتصادي للبلدان، لأنه يساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية، نتيجة للثقة التي تتولد لدى المستثمرين في النظام القانوني من جهة، ومن جهة أخرى فإن لهذا الجانب أهمية كبيرة بالنسبة إلى المواطنين للشعور بالاستقرار والطمأنينة، ودون تحقيق العدالة وتعزيز سيادة القانون، لا يستبعد المراقبون للشأن العربي إمكانية أن تعاني المنطقة من موجات غضب متجددة مرارا وتكرارا.

وتواجه الأنظمة القضائية في العالم العربي، تحديات كبيرة وخطيرة، لا سيما في ما يتعلق باستقلال القضاة والمدعين العامين والمحامين، وحصول المواطنين على العدالة وحماية حقوق الإنسان، وفاعلية النظم القضائية في منع النشاطات الإجرامية والإرهابية وتفشي الفساد.

ويعكس هذا الأمر، فجوة كبيرة بين الرؤية التي تقوم عليها مبادئ السلطة القضائية، وبين الواقع الفعلي لتطبيق معايير دولة القانون في الدول العربية، وهو ما يجعل الملايين من المواطنين العرب يواجهون الظلم وعدم الإنصاف في مشاكل حياتهم اليومية، وقد يأخذ هذا الظلم منحى شرسا وممنهجا، من قبل السياسيين لتكميم الأصوات وترويع المعارضين.

وفي بعض الحالات تواجه الملاحقات الجنائية على الجرائم الجسيمة تحديات كبيرة، من أهمها غياب الإرادة السياسية اللازمة التي تسمح بملاحقات قضائية مستقلة ومحايدة، لاسيما عندما يكون المتورطون في الجرائم الإنسانية يشغلون مناصب في السلطة، فيصبح من شبه المستحيل حصول الكثير من المظلومين على العدالة.

النعرات الطائفية

كما أن هذا المسعى لإحقاق العدالة، قد لا يحظى في عدة دول عربية تعاني النعرات الطائفية والحزبية بالدعم الشعبي الكامل، إذ أن بعض الطوائف والأحزاب تجد ذرائع لارتكاب الجرائم التي تشمل عددا كبيرا من الضحايا والجناة، ما يولّد “ثغرات للإفلات من العقاب”.

وأصبح انهيار مؤسسة القضاء العراقية وسقوطها في لعبة الولاءات السياسية والطائفية، بنظر مراقبين، مؤشرا على هشاشة مؤسسات الدولة بشكل عام، وسببا في ضعف بعضها وانهيار البعض الآخر، مع تخلي القضاء عن دوره في فرض القانون وردع الخارجين عنه بغض النظر عن مكانتهم السياسية والاجتماعية وانتماءاتهم الحزبية والطائفية.

وينظر أغلب العراقيين إلى القضاء باعتباره مظلّة لحماية كبار الفاسدين الذين يختلط لديهم النفوذ المالي بالنفوذ السياسي وحتى بامتلاك السلاح، ليغدو بذلك بمثابة جدار أمام محاولات الإصلاح ومحاسبة الفاسدين الممسكين بمفاصل الدولة وتحييدهم عن المواقع الخطيرة التي يحتلونها.

وجسّدت مؤسسة القضاء العراقي عجزها وخضوعها للحسابات السياسية، من خلال عجزها عن محاسبة مرتكبي أعمال الإخفاء القسري ومساعدتهم على الإفلات من العقاب.

ويعد العراق من بين أعلى الدول التي يوجد فيها أكثر أعداد من المفقودين في العالم وفق تقارير اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

وتقدّر اللجنة الدولية للمفقودين، التي تعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية للمساعدة في استرداد المفقودين وتحديدهم، أن العدد قد يتراوح بين 250 ألف ومليون شخص.

ولا تعتبر ظاهرة الاعتقال خارج نطاق القانون والإخفاء القسري جديدة على العراق خلال حقبة ما بعد سنة 2003 مع انتشار الميليشيات في البلد، لكنّ تفاقم الظاهرة ارتبط بشكل استثنائي بالحرب التي دارت ضدّ تنظيم داعش بمشاركة العشرات من الميليشيات التي لم يقتصر دورها على القتال بل تعدّته إلى اعتقال المشتبه بهم والتحقيق معهم. ولا يعرف أهالي المختطفين والمغيّبين مصير أبنائهم، ويلجؤون في غياب الوسائل القانونية وتدخّل الدولة إلى التوسّط لدى الميليشيات عن طريق نواب وسياسيين وشيوخ عشائر على صلة بها لاستقاء بعض المعلومات والتأكّد على الأقل من أنّ أقاربهم لا يزالون على قيد الحياة.

وحذرت الأمم المتحدة من خطورة الاختفاء القسري، معتبرة ذلك أكثر من مجرد انتهاك لحقوق الإنسان ضد فرد، إذ يتم استخدامه في الكثير من الأحيان كاستراتيجية لنشر الرعب في المجتمع بأسره.

وترى شخصيات عراقية في إصلاح القضاء مفتاح عملية الإصلاح ككل وأساسها، حيث تستحيل المحاسبة في ظلّ وجود قضاء فاسد، دأب على حجب ملفات خطرة والتستر على قضايا تتصل بمختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها، فضلا عن سرقات للمال العام توصف بـ”التاريخية”.

الاعتقالات السياسية

شهدت بعض الدول العربية بعد انتفاضات ما يسمى “الربيع العربي” تحسنا في مجال الحريات واحترام حقوق الإنسان والوعي المتزايد بأهميتها، لكن انتهاكات حقوق الإنسان ما زالت مستمرة في مختلف أنحاء المنطقة، بحسب ما أكدت تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.

كما تستمر الاعتقالات لأسباب سياسية في العديد من الدول العربية دون أن يتمتع المعتقلون بحق الحصول على محاكمة عادلة.

وأظهرت تقارير دولية وجود الآلاف من سجناء الرأي في السجون العربية، وتفشي التعذيب المنظم في مراكز الاعتقال الرسمية منها وغير الرسمية.

وتعتبر تونس من بين البلدان العربية التي نالت إشادة عالمية، بسبب قوانينها التي توصف بالتقدمية في تكريس الحقوق الأساسية لمواطنيها، خصوصا بعد الانتفاضة التي شهدتها في عام 2011.

وفي عام 2013، أقرت تونس قانونا شاملا للعدالة الانتقالية وصف بأنه أول قانون من نوعه في العالم، وهدفه الكشف عن الانتهاكات التي شهدتها تونس من يوليو 1955 إلى 2013.

وتمخضت عن هذا القانون هيئة الحقيقة والكرامة، التي عكفت على مراجعة الآلاف من القضايا بشأن انتهاك حقوق الإنسان على مدار ستة عقود، غير أن الهيئة لم تستطع تحقيق نتائج ملموسة تعكس عدالة القضاء التونسي واستقلاليته في محاسبة المتورطين في ارتكاب انتهاكات خطيرة إبان حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

ومنذ الإطاحة ببن علي، لم تتم محاكمة سوى عدد قليل من المتورطين في انتهاكات خطيرة أثناء فترة حكمه وتحقيق العدالة للضحايا.

كما أولى دستور تونس الصادر عام 2014 أهمية بالغة للسلطة القضائية وخصها بالباب الخامس، وقد نص الفصل 102 منه على أن “القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل وعلوية الدستور وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات، والقاضي مستقل ولا سلطان عليه في قضائه لغير القانون”.

وتم أيضا تدعيم هذا الفصل بالفصل 109 من الدستور، والذي منع التدخل في القضاء وعدم المس باستقلاليته، حيث جاء فيه “يحجر كل تدخل في سير القضاء”.

شبكات السلطة والنفوذ

إلا أن القضاء التونسي ما زال يواجه في الكثير من الضغوط من شبكات السلطة والنفوذ في البلاد، لإضعاف استقلاليته واستخدام المحاكم لغايات سياسية، ولجم الأصوات التي تنتقد الحكومة ومؤسسات الدولة، أو للإطاحة بالمعارضين السياسيين.

وكشف تقرير لمنظمة الشفافية ومقرها برلين، أن تونس شهدت تحسنا طفيفا “لكن الطريق ما زال طويلا لوضع ركائز فاعلة في مكافحة الفساد، وأهمها إقرار قوانين مثل حماية المبلغين عن الفساد وتجريم تضارب المصالح والإثراء غير المشروع والإفصاح عن الذمة المالية”.

وأوضح التقرير أن “القضاء التونسي يحتاج إلى أن يكون أكثر شجاعة للفصل في قضايا الفساد، وخاصة تلك العالقة منذ ست سنوات بعد الثورة والتي لم يتم البت فيها بعد”.

وترى العديد من المنظمات غير الحكومية، بينها هيومان رايتس ووتش، أن الحكومة التونسية التي يهيمن عليها “حزب النهضة” الإسلامي تمارس تأثيرا على النظام القضائي لا يتماشى مع مبدأ استقلالية القضاء.

وسبق أن انتقد القاضي السابق بالمحكمة الإدارية أحمد صواب في تصريح لـ”العرب” وضعية القضاء التونسي ووصفها بـ”الشائكة”.

وأكد صواب على أهمية استقلالية القضاء وحياده في عملية الانتقال الديمقراطي قائلا “لا يمكن تحقيق انتقال ديمقراطي إلا بقضاء مستقل”.

وأضاف “فشلنا في الانتقال القضائي رغم جودة النصوص القانونية… وجزئيا هناك تسييس لبعض القضاة.. ومن تربى في منظومة قضائية مدجّنة لأكثر من 20 سنة لا يمكن أن يصبح مستقلا بين عشية وضحاها”.

واعتبر عادل المعيزي عضو هيئة الحقيقة والكرامة أن التحدّي الأكبر الذي يعرقل تحقيق العدالة في تونس هو ظاهرة الإفلات من العقاب.

وقال المعيزي لـ”العرب”، “أتاحت تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس اعتماد دستور يكرّس الفصل بين السلطات ويعطي استقلاليّة تامة للقضاء، من خلال إرساء مجلس أعلى للقضاء منتخبا من بين القضاة، ومن جهة أخرى أقرّ الدستور الجديد في الفصل 148 تاسعا أنّ الدولة تلتزم بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدّة الزمنيّة المحدّدة، بالتشريع المتعلّق بها ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعيّة القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجيّة اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن”.

وأضاف “تم إحداث هيئة الحقيقة والكرامة لتنفيذ مقتضيات العدالة الانتقالية وذلك بمعالجة إرث الماضي من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي اقترفتها أجهزة الدولة وتقديم رموز الاستبداد والفساد لقضاء متخصّص من أجل كشف الحقيقة ومساءلة المذنبين وجبر ضرر الضحايا وحفظ ذاكرتهم وكل ذلك من أجل طي صفحة الماضي”.

واستدرك قائلا “لكن الجهات السياسية المتحكمة في اللعبة السياسية والمتحالفة مع النظام القديم ورموز الاستبداد والفساد تسعى باستمرار إلى التأثير في مسار المساءلة والمحاسبة، تارة من خلال اقتراح تغيير القوانين وتمرير قوانين العفو وطورا من خلال محاولة التحكم في سير القضاء أو إحداث الارتباك في السير العادي للدوائر القضائية المتخصّصة وهو ما يعزّز الإفلات من العقاب”.

وأكد المعيزي أن تعطّل مسار القضاء الانتقالي ألقى بظلاله على سير القضاء العادي وساهم في تكريس الإفلات من العقاب، مشددا على أنّ أجهزة القضاء المنتخبة معزّزة بالمجتمع المدني القضائي، وستقوم بإصلاح مؤسسات القضاء وغربلته للتصدّي لظاهرة الإفلات من العقاب.

وتصاعدت في الفترة الأخيرة حدة الاتهامات لحركة النهضة بالسيطرة على القضاء وحتى وزارة العدل، حيث اتهمت عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر نوابا عن الحركة بالتواصل مع إرهابيين في السجون مستغلين نفوذ الحركة في مصلحة السجون التابعة لوزارة العدل.

وبالرغم من أن الفترة التي قادت فيها الحركة وزارة العدل (2013-2014) قد انتهت إلا أن منتقديها يرون أن مخلفات تلك الفترة لا تزال تلقي بظلالها حتى الآن على أجهزة الوزارة.

حالة من الارتباك
أما في الجزائر البلد المجاور لتونس، فتسود الكثير من المخاوف بشأن تدخل الدولة في الحق في حرية التعبير وطريقة التعاطي مع قضايا الناشطين السياسيين والمعارضين.

وأبدى القضاء الجزائري حالة من الارتباك، أثناء محاكمة النشطاء والحقوقيين، على خلفية الاحتجاجات السياسية التي شهدتها البلاد قبل قرابة العام، إذ سجلت مفارقات لافتة تتفاوت فيها الأحكام الصادرة على هؤلاء بين محكمة وأخرى، وكأن لكل محكمة قانونا خاصا بها.

وتنامت في الأشهر القليلة الماضية الانتقادات لمسار الجهاز القضائي وهيئاته، حتى من طرف النقابة التي كانت توصف بـ”المقربة من السلطة” (النقابة الوطنية للقضاة) بعد دخولها مؤخرا في مناكفات مع وزير العدل بلقاسم زغماتي.

وفي سبتمر الماضي اعتصم العشرات من المحامين والقضاة أمام مبنى قضائي في العاصمة الجزائرية احتجاجا على النظام القضائي في البلاد الذي طالبوا بتغييره.

ومن بين القضايا مثار الاحتجاج ما يُعتقد بأنه انتهاك متفق عليه لمبدأ افتراض البراءة و”إرادة الإدانة” الموجودة بالفعل.

وعبر عبدالرحمن صلاح، وهو مسؤول في نقابة المحامين الجزائرية عن استيائه من “تراكم الخروقات في مسألة مراعاة قرينة البراءة بالنسبة للمتهمين، وفي مسألة توفير المحاكمة العادلة التي يراها غائبة تقريبا”.

وقال “أصبح لدينا اقتناع بأن هناك إرادة مسبقة بالإدانة بمجرد توجيه الاتهام لأي شخص، قرينة البراءة شبه غائبة. ظروف العمل غير متوفرة سواء للمحامين أو حتى للقضاة أنفسهم”.

وتابع “أما مسألة الحريات والحقوق فقد تم التراجع عليها بشكل ملحوظ بعد 22 فبراير 2019 في حين أنه من أهداف الحراك الشعبي هو حماية وتعزيز الحقوق والحريات، ولكن الوضع الحقوقي الحالي أصبح يشهد تراجعا في هذا المجال مقارنة بما قبل 22 فبراير 2019”.

وسبق لمنظمة العفو الدولية أن نددت بعدة أحكام قضائية في الجزائر ووصفت في بيان حديث لها حكم بالسجن على صحافي بارز بأنه “استهزاء بالعدالة في بلد يُفترض أنه يمر بتغيير سياسي وتحول في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية”.

واعتبر الدكتور مهدي قصير، الباحث الجزائري في علم الاجتماع، أن الدول الناجحة تتأسس على مبدأ العدل وضمان الحقوق لجميع مواطنيها، حيث يصبح القضاء الركن الأساسي لبناء الحوكمة الرشيدة، ولكن بشرط أن يتمتع القضاء بكامل الاستقلالية والحرية، وألا يخضع إلا للقانون ولضميره، ويعتمد عقله وفكره وثقافته في إصدار الأحكام وتحقيق العدالة.

وقال قصير لـ”العرب”، “إذا تحققت العدالة استتب الأمن، وازدهرت المجتمعات وشعر الناس بالسعادة والاستقرار، فالقضاء المستقل دعامة أساسية للدول الديمقراطية التي تستمد قوتها بشكل مباشر من تطبيق القوانين وحماية الحقوق، كما أن القضاء المستقل هو دعامة أساسية للتنمية الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية…”.

وأضاف “للأسف في العالم العربي لا زالت العدالة غائبة، بل مغيبة بفعل القهر السياسي وغياب المناخ الديمقراطي ونظام الحريات والحقوق، وفي معظم البلدان العربية يكون القضاء موجها وخاضعا لإرادة النظام السياسي وتسلط الحاكم الذي يتدخل بشكل مباشر في عمل السلطة القضائية، وفي الأحكام القضائية”.

ولفت قصير في خاتمة حديثه إلى أن بعض البلدان العربية قد بدأت تعمل على إصلاح السلك القضائي وجعله أكثر حيادية واستقلالية في أحكامه وطرق عمله، مستشهدا بتونس والجزائر في اتخاذهما خطوات جريئة على طريق تحقيق العدالة وصون أحكام القانون وتوطيد استقلال القضاء.

العرب