أثار إعلان «اتفاق إطار» بين لبنان وإسرائيل على ترسيم الحدود البحرية بداية الشهر الحالي عددا من المفارقات، كما فتح الباب للسجال حول إمكانية اندراج هذه الخطوة ضمن الخطّ البياني الصاعد باتجاه تطبيع بلدان عربية مع إسرائيل.
أولى هذه المفارقات كانت أن من أعلن عن هذا الاتفاق هو نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني، وأحد طرفي ما يسمى «الثنائي الشيعي» الذي يضم حركة «أمل» التي يرأسها، و«حزب الله» الذي يعتبر الجهة السياسية الأعلى صوتا ضد إسرائيل، والأكثر اشتباكا مع الدولة العبرية منذ رحيل المقاومة الفلسطينية عن لبنان عام 1982.
لكن تأثير هذه المفارقة سيضعف حين تستعيد الذاكرة واقعة أن حركة «أمل» نفسها هي التي قامت لاحقا بتصفية جيوب المقاومة الفلسطينية في لبنان عبر حصارها الذي بدأ عام 1985 للمخيمات الفلسطينية لمدة سنتين ونصف مارست فيهما القصف والتجويع للفلسطينيين، فيما تكفّل «حزب الله» والنظام السوري بإنهاء الرديف اللبناني للمقاومة الفلسطينية والمسمى «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» التي كانت محاولة اغتيال العميل أنطوان لحد واحدة من 1113 عملية نفذها، فتعرّضت الجبهة لعمليات خطف واغتيال ومطاردات انتهت بأن استلم «حزب الله» ورقة محاربة إسرائيل، ونقلها من نضال وطنيّ وتقدمي لبناني إلى احتكار طائفيّ متلازم مع ارتهان لقيادتي سوريا وإيران أدى لترهيب باقي المكوّنات اللبنانية وساهم في حوادث كان أشهرها اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
يحصل الاتفاق في لحظة تقترب فيها الطبقة السياسية اللبنانية من الانهيار تحت وطأة الأزمات الكبرى بحيث يبدو أن تدخّل الدول الكبرى، كأمريكا، التي رعت الاتفاق، وفرنسا، التي قدّمت مبادرة لتحريك العملية السياسية، صار «اللاصق» الذي يحافظ على وحدة الكيان اللبناني.
ففي الوقت الذي ينهار الاقتصاد تحت وطأة حجم الديون الهائلة، وتتدهور البنوك، ويستفحل الفقر والجوع، وينفجر مرفأ بيروت مع كل الفضائح الخفية التي يخفيها، وتندلع الحرائق، ويدخل الشعب اللبناني حالة يأس بعد حراك جماهيري كبير، ويتناظر هذا مع إشارات ترحيب بالتطبيع من قبل النظام السوري نفسه، وإشارات إنهاك وتراجع للنظام الإيراني، لا يعود حاجة لمستهلكي دعاية النظامين حول المقاومة للاستمرار في هذه اللعبة التي كانت ناجحة حين كانت مؤسسات الدولة اللبنانية استثمارا مجزيا، وحين كان اللعب على الحبال بين القوى العظمى والإقليمية مفيدا.
يكشف ما يحصل في لبنان والعالم العربي حاليا أمثولتين سياسيتين مهمتين، الأولى هي أن العداء للفلسطينيين ومحاولة استئصال معناهم السياسي، حتى لو كان ذلك تحت شعار محاربة إسرائيل، يؤدي في النهاية إلى اللقاء بمعنى إسرائيل الحقيقي، الذي هو تغليب الاستبداد على الحرية والطغيان على البشر، والثانية هي أن التقرب من إسرائيل، على طريقة الإمارات والبحرين، لا يمكن أن يكون إلا للإضرار بالفلسطينيين، ولا داعي، بالتالي، للدعاية السخيفة حول جهاد الإمارات لمنع إسرائيل من ضم الأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي تتحوّل فيه الإمارات والبحرين إلى ملعب سياسي وأمني واقتصادي لإسرائيل.
القدس العربي