من سوريا إلى ناغورني قره باغ، مروراً بالعراق وليبيا وقبرص وبحر إيجه، تكثف أنقرة ضغطها… إذ لم يسبق لتركيا أن انخرطت قط في العديد من العمليات العسكرية في الوقت نفسه كما هو حاصل اليوم، تقول صحيفة “لوموند” الفرنسية.
فالجيش التركي موجود في سوريا ويناور في ليبيا وفي توغل دائم في شمال العراق. كما أن السفن التركية تغذي التوترات مع اليونان وقبرص في البحر المتوسط، فيما تحلق طائراتها المقاتلة على ارتفاع منخفض فوق جزر بحر إيجه بشكل يومي، كما تشرح الصحيفة الفرنسية، موضحة أنه في الآونة الأخيرة، انحازت تركيا إلى أذربيجان في الحرب التي تخوضها هذه الجمهورية السوفيتية السابقة ضد الانفصاليين الأرمن للسيطرة على منطقة ناغورني قره باغ الانفصالية، مفضلة حلاً بالقوة عن المحادثات، حلت طائراتها بدون طيار والفرقاطات محل الدبلوماسية، بحسب لوموند دائماً.
ووسط عدم مبالاتها بتحذيرات الاتحاد الأوروبي، أعادت تركيا نشر سفنها في شرق البحر المتوسط، حيث تطالب بتقسيم جديد للحدود البحرية، فضلاً عن الوصول إلى حقول الغاز المكتشفة مؤخرًا في المياه العميقة.
ومن شأن مهام التنقيب الجديدة هذه إعادة تأجيج التوترات في هذا الجزء من البحر الأبيض المتوسط، حيث كادت اليونان وتركيا -وهما عضوان في حلف شمال الأطلسي (الناتو)- أن تدخلا في مواجهة مباشرة خلال الصيف. وقد منحت فرنسا وألمانيا، يوم الخميس 15 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تركيا أسبوعا لسحب سفنها أو مواجهة عقوبات.
وتتابع لوموند قائلة إن تركيا وبعد أن أثارت الانقسامات والخلافات طوال فصل الصيف من خلال عمليات المسح في المياه الإقليمية اليونانية والقبرصية، انتهى الأمر بها باستدعاء اثنتين من سفنها إلى الميناء. وأعرب الاتحاد الأوروبي، تضامنًا مع اليونان وقبرص، العضوين، عن اعتقاده أن ذلك كان بداية لنزع فتيل التصعيد. وتم هذا الانسحاب التركي قبل القمة الأوروبية التي انعقدت في الأول والثاني من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري والتي ركزت على الأزمة في شرق البحر المتوسط.
فالاتحاد الأوروبي الذي يعد الشريك التجاري الرئيسي لأنقرة، كان يأمل في أن تكون المقترحات المقدمة في القمة، وهي تحديث معاهدة الاتحاد الجمركي وتبسيط إجراءات التأشيرة للمواطنين الأتراك الراغبين في السفر إلى أوروبا وهبات جديدة للاجئين السوريين على الأراضي التركية والتي ستكون أكثر جاذبية من التهديد بالعقوبات. وكان الهدف هو حث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على بدء محادثات مع اليونان وقبرص. لكن هذا الأمل تلاشى يوم الإثنين الماضي مع إعادة نشر سفينة “رايس عروج” التركية قبالة كاستيلوريزو، أقصى شرق جزر دوديكانيز، والذي تلاه الإعلان عن أن سفينة يافوز ستستأنف هي الأخرى مهمتها في التنقيب قبالة قبرص، تضيف لوموند.
ويوم الأربعاء الماضي، قال الرئيس التركي رجب طبيب أردوغان، في كلمة ألقاها أمام نواب حزب العدالة والتنمية الإسلامي المحافظ الذي يتزعمه، قال إن اليونان وقبرص “ستتلقى الإجابات التي تستحقها”، كما أشاد أردوغان بقراره الأخير بإعادة فتح منتجع فاروشا القبرصي السابق جزئيًا أمام الجمهور. فبعد أن أفرغت من سكانها القبارصة اليونانيين، عندما وصل الجيش التركي في عام 1974، ظلت المدينة على حالها منذ ذلك الحين، حيث كانت الفنادق والفيلات القديمة المهجورة فيها مفتوحة أمام الرياح الأربع.
واعتبرت لوموند أن فتح شواطئ وشوارع مدينة الأشباح هذه أمام الجمهور، دون استشارة مسبقة مع الجانب القبرصي اليوناني، يعادل إنهاء آفاق استئناف المفاوضات من أجل إعادة توحيد الجزيرة، مشيرة إلى أن أردوغان أصر على أن “منطقة فاروشا المغلقة تخص أتراك شمال قبرص”. فهذه الجزيرة المقسمة الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تحتفظ تركيا بـ30 ألف جندي، مهددة بأن تصبح نقطة ساخنة، وهي واحدة من بين العديد من المناطق التي يسعى أردوغان إلى بسط سيطرته عليها، توضح صحيفة لوموند الفرنسية دائماً.
وتنقل لوموند عن يوهانان بنهايم، الباحث والمؤسس المشارك لموقع Noria Research على الإنترنت، قوله إن “السياسة الخارجية التركية يمكن تحليلها في ضوء إفلاس السياسات الأوروبية والأمريكية.. حيث إن الحراس القدامى لنظام الحرب الباردة يتلاشى وستملأ تركيا الفراغ”. ففي سوريا، اختار الأمريكيون عدم التدخل في عام 2013، تاركين المجال مفتوحًا لروسيا وتركيا، في حين وجد الأوروبيون، المشلولون بسبب مشكلة الهجرة، أنفسهم في وضع الرهائن بالتوقيع في عام 2016 على اتفاق مع أنقرة.
ويمكن أيضاً -بحسب لوموند دائما- تفسير تغير الدبلوماسية التركية من خلال التحول الجذري الذي اتخذه الرئيس رجب طيب أردوغان منذ الانقلاب الفاشل ضده في عام 2016، حيث انضم إلى ائتلاف مع حزب العمل القومي التركي واستمع للحجج المقدمة من الضباط “الأوراسيين” وهم أصحاب السيادة المؤيدون للتقارب مع روسيا، وذلك بغية تحرير بلاده من “المقود” الذي “مرره الغرب حول عنقه”.
وتساءلت لوموند ما الهدف الذي يسعى إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من خلال تواجده على عدة جبهات؟ ردا على هذا السؤال، تنقل الصحيفة عن الباحث سنان أولغن، في عمود كتبه يوم السادس من شهر أكتوبر الجاري في مجلة فورين بوليسي الأمريكية، اعتبر فيه أن الأسباب داخلية، قائلاً إن “النزعات تديم فكرة أن بلدًا تحت الحصار يتعرض لهجوم من قبل جهات خبيثة وبالتالي تغذي الحاجة إلى قائد قوي”. ويضيف أن “النزعات تخلق انقسامًا خاطئًا من خلال إجبار الناخبين على الاختيار بين الرفاهية الاقتصادية والأمن القومي”.
وتشير لوموند إلى أنه في غضون ست سنوات، نما الناتج المحلي الإجمالي التركي من 951 مليار دولار في عام 2013 إلى 754 مليار دولار في عام 2019. لكن وعود النمو تلاشت وتلاشت معها شعبية حزب العدالة والتنمية التي انخفضت إلى 32% حسب آخر استطلاعات الرأي، مقابل 42% في 2018، تقول صحيفة لوموند الفرنسية.
القدس العربي