فاجأ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون دول الاتحاد الأوروبي عندما أعلن في كلمة مقتضبة أن خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق بات قريبا، داعيا مواطنيه ورجال الأعمال في بلاده للاستعداد لهذا الخيار؛ مما أحدث ضجة في المملكة المتحدة وفي أروقة الاتحاد الأوروبي.
موقف رئيس الوزراء البريطاني جاء تماشيا مع وعد سبق أن قطعه أمام برلمان بلاده، بأنه في حال لم يتم تحقيق أي تقدم في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول الجاري فيسكون مجبرا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي من دون أي اتفاق.
وصعدت لندن لهجتها أمام الأوروبيين؛ فبعد ساعات من كلمة جونسون، التي اعتبرها البعض محاولة للضغط على الأوروبيين لتقديم تنازلات للتوصل لاتفاق، جاء الموقف واضحا من متحدث باسم رئاسة الوزراء بإعلانه أن الوفد الأوروبي المتوقع زيارته للبلاد الأسبوع المقبل، بقيادة رئيسة المفوضية الأوربية أورسولا فون دير لاين، “سيكون عليه إظهار تغييرات جذرية في صيغة الاتفاق وإلا فليست هناك أي حاجة لرحلته إلى لندن”.
المتحدث نفسه اعتبر أن المفاوضات -وبشكلها الحالي- قد انتهت بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لتلقي الحكومة البريطانية الكرة في ملعب الأوروبيين، الذين يتضح أنهم فوجئوا من حدة الخطاب البريطاني.
السيادة خط أحمر
تسوق الحكومة البريطانية مبرر استعادة السيطرة على سيادة كاملة، لرفضها القاطع استمرار المفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وتعيب المملكة على الأوروبيين أنهم يحاولون تحقيق نصف خروج للبريطانيين عبر الإبقاء على المياه البريطانية، خاضعة للقوانين الأوروبية، وذلك لتسهيل صيد السفن الأوروبية، وألا يكون للحكومة البريطانية القرار الأخير في عدد السفن الأوروبية التي لها حق الصيد في المياه الإقليمية البريطانية.
وكان ملف الصيد من النقاط الخلافية الكبيرة، خاصة بين فرنسا وبريطانيا، وتصر الأخيرة على أن تحديد عدد السفن وتواريخ الصيد بالنسبة للسفن الأوروبية في المياه البريطانية سيكون في يد لندن وحدها.
لا يمل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من تكرار مطالبته الأوروبيين بإبرام اتفاق تجاري على شكل الاتفاق التجاري الذي يجمع بين الاتحاد الأوروبي وكندا، حيث لا يمنح هذا الاتفاق للأوروبيين الحق في التدخل في معايير المنتجات الفلاحية، ولا يفرض أي شروط على كندا فيم يتعلق بمياهها الإقليمية أو حتى حدودها.
وترى الحكومة البريطانية أن الاتفاق المناسب بالنسبة لها هو اتفاق يعيد لها السيادة على كل حدودها البحرية والبرية، وأيضا لا يضمن أي تدخل لمحكمة العدل الأوروبية في أي قضية تجارية بريطانية، ولا يفرض على بريطانيا الالتزام بأي معايير تتعلق بالمنتجات الغذائية، لكنه -في المقابل- يحقق شرط المبادلات التجارية الحرة بين الطرفين، والإعفاء الجمركي بين الجانبين.
حيرة أوروبية
يمزج الأوروبيون في خطابهم الموجه للبريطانيين بين الترغيب والترهيب؛ فمباشرة بعد تصريحات جونسون الداعية للاستعداد للخروج من دون اتفاق، خرج الرئيس الفرنسي ليؤكد أن الأوروبيين لن يفرطوا في مصالحهم “فقط من أجل إسعاد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون”، مؤكدا أن “الخروج من دون اتفاق أحسن من اتفاق سيئ”.
في المقابل، تحاول ألمانيا -كعادتها- الحفاظ على موقف معتدل، حيث لم تغلق المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الباب تماما أمام إمكانية التوصل لاتفاق في النهاية، وهو ما صارت عليه حتى رئيسة المفوضية الأوروبية، التي أعلنت أنها ذاهبة لبريطانيا الأسبوع المقبل لرفع إيقاع المفاوضات بين الطرفين.
لكنها لا تخفي المحاولات الأوروبية لتجنب الخروج من دون اتفاق تجاري؛ فبريطانيا تعد شريكا تجاريا مهما للتكتل، وفي حال خروجها من دون أي اتفاق ستجد أوروبا نفسها أمام أكثر من منافس؛ من جهة بريطانيا، ومن جهة تركيا، ثم الولايات المتحدة الساعية لعقد اتفاق تجاري ضخم مع المملكة المتحدة.
البنك المركزي البريطاني أول المتخوفين من سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق (رويترز)
سيناريو الرعب
يعد البنك المركزي البريطاني أول المتخوفين من سيناريو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، وأكد مرارا أن اقتصاد البلاد قد يتعرض لانكماش مشابه لما حدث له عقب الحرب العالمية الثانية، ولن يتجاوز آثار هذا الخيار إلا بعد سنوات.
أطروحة تعززها العديد من الدراسات، ومن بينها ما أصدره “مركز الأداء الاقتصادي” التابع لجامعة لندن للاقتصاد، الذي قال إنه في حال انتقل التعامل التجاري بين الطرفين إلى الاعتماد على معايير منظمة التجارة العالمية بدل معايير السوق الموحدة، ودون الاستفادة من اتفاق تبادل الحرب؛ فإن هذا الوضع سيقلص نصيب الفرد من الناتج الداخلي الخام بنسبة تتراوح بين 3.5 و8.7%، وذلك على امتداد السنوات العشر القادمة.
في حين تكشف الأرقام الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عن حجم خسائر الصادرات البريطانية في حال عدم توقيع اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي، وتصل إلى 16 مليار دولار، وهو ما يشكل تقريبا 7% من حجم الصادرات البريطانية نحو الاتحاد الأوروبي.
وتزيد متاعب الاقتصاد البريطاني -حسب المؤسسة الأممية- بانتقال الآثار السلبية إلى الدول غير الأوروبية، التي تربطها علاقات تجارية تفضيلية مع الاتحاد الأوروبي، مثل تركيا والمكسيك وكندا وجنوب أفريقيا، فهذه الدول سترفع الرسوم على البضائع البريطانية بمجرد خروج المملكة من التكتل الأوروبي، علما أن ثلث الصادرات البريطانية يتجه للاتحاد الأوروبي، والثلث الثاني يتجه لدول لها اتفاق تجاري مع الاتحاد؛ مما يعقد الوضع أمام المنتجات التي تحمل علامة “صنع في المملكة المتحدة”.
أما وكالة بلومبيرغ الاقتصادية، فاختارت تخصيص دراسة لقياس حجم الخسارة التي تكبدها الاقتصاد البريطاني منذ بدء مسار البريكست سنة 2016، وكانت النتيجة صادمة، بوصول حجم الخسائر إلى 170 مليار دولار، وتتوقع الدراسة أنه في حال عدم التوصل لاتفاق خلال هذه السنة سترتفع خسائر اقتصاد المملكة المتحدة إلى 200 مليار دولار.
المصدر : الجزيرة