في الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية اللبنانية، قدّرت وكالات عالمية المتظاهرين في الشوارع بنحو مليوني مواطن أي ثلث الشعب اللبناني، ومع أن الأبحاث تعتبر أن مجرد نزول نحو 3.5 في المئة من سكان دولة ما إلى الشوارع، يعد ثورة وينزع شرعية السلطة ويسقطها، إلا أن هذا الأمر لم يحصل، وبالعكس فبعد عام على انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، تعود القوى السياسية نفسها لتنتج حكومة، وكأنها استنساخ عن السنوات الماضية وكأن شيئاً لم يحصل، ما يدعو للتساؤل حول أسباب تراجع قوة الانتفاضة اللبنانية خلال الأشهر الأخيرة، وعدم قدرتها على فرض تغيير جوهري على مسار الحكم.
مجموعات عدة منضوية في الحراك الشعبي، تعترف بمأساوية الصورة المرحلية، إلا أنها تراهن على حدوث تغيير كبير، على المديين المتوسط والبعيد، معتبرةً أن الظروف الداخلية والإقليمية عاكست مشروعها وفاقمت الوضع الأزمة الاقتصادية، وتفشي فيروس كورونا، الذي شل قدرتها على التحرك لشهور عدة.
الاضطهاد والاعتداء
وحول التراجع الحاد في قدرة المجموعات على حشد الجماهير في الساحات والطرقات، كما كان يحصل خلال الأسابيع الأولى من الانتفاضة، تشير أوساط المجموعات إلى أن تعرض المتظاهرين لـ”الغزوات” الكثيرة من قبل مجموعات تابعة للسلطة والأحزاب المسلحة في بيروت، عند تقاطع الرينغ (بالقرب من وسط بيروت) وساحتي الشهداء ورياض الصلح، إضافة إلى ما حصل في بعلبك وصور والنبطية، بدأ ينذر باصطدام في الشارع، قد يؤدي إلى وقوع حرب أهلية، لاسيما أن الدولة، والقوى الأمنية كانتا تقفان على الحياد، من دون تدخل أمام الاعتداءات المتكررة، “حتى أنهما لم توقفا معتد، على الرغم من أن وجوههم رصدتها وسائل الإعلام وكاميرات المراقبة، وأسماؤهم باتت معروفة للجميع، في حين أن الثوار تعرضوا للضرب والتنكيل والاعتقال وباتت الصورة وكأن الدولة و”حزب الله” في وجه الثوار، بالتالي هناك خلل في توازن القوى بين الطرفين”.
في هذا السياق يقول الناشط السياسي ومنسق إحدى المجموعات بهجت سلامة، إنه لا يمكن أن تنجح الانتفاضة قبل رفع وصاية إيران المتجسدة بـ”حزب الله” عن الدولة، “لأن التجربة أثبتت أن الحزب يستخدم الدولة كأداة قمعية في وجه الشعب، في حين يريد الشعب المنتفض بناء دولة لا تدميرها، فتصل الأمور إلى حد أن الحزب يجلس جانباً، ويترك الشعب والدولة يصطدمان ببعضهما بعضاً”، مشدداً على ضرورة أن تتوحد المجموعات حول عناوين سياسية سيادية، لاسيما السلاح غير الشرعي، لأن كل الانهيار الحاصل هو نتيجة هيمنة سلاح الحزب على لبنان.
نجاح الثورة يرتبط بفرض قوتها على الأرض
ومن المجموعات المشاركة بقوة في انتفاضة 17 أكتوبر، الأحزاب اليسارية ويتقدمها الحزب الشيوعي اللبناني. تلك المجموعات تؤمن بأن “لا ثورة ناجحة حصلت في العالم لم تُكلل بدماء أبطال واجهوا الطبقة الحاكمة”، مبررين نظريتهم بأنه “عندما تتحكم الطبقة السياسية ببلد ما، تصبح المنظومة كلها متكاملة كحلقة واحدة لحماية بعضها بعضاً”.
وتتكامل مع المجموعات اليسارية مجموعات راديكالية تتلاقى حول نظرية أن نجاح الثورة يرتبط بفرض قوتها على الأرض، ويقول أحد قادة هذه المجموعات (رفض الكشف عن اسمه)، إن “هذه الطبقة السياسية لن تستسلم سوى بفرض قوة أقوى منها، ولا بد أن تستثمر الثورة التي تؤيدها أكثرية اللبنانيين، قوتها لتدفع الأحزاب الحالية إلى الرحيل، وترك الشعب يقرر مصيره”، معتبراً أن هذه المنظومة الحاكمة باتت قوة احتلال تأخذ الشعب رهينة لها ولا سبيل سوى مقاومتها.
ثوار “مندسون” ويسار “مذهبي”
في المقابل، تعترض أوساط من مجموعات عدة في الانتفاضة على ممارسات المجموعات اليسارية، وتتهمها بأنها تعمل وفق أجندة “حزب الله”، لا سيما لناحية عدائها للقطاع المصرفي، وتحميله وزر الأزمة الاقتصادية ولجوئهم إلى تكسير بعض فروع المصارف، مقابل الاعتراض على أي شعار يطلقه “الثوار” ضد أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله وسلاح حزبه، لاعتبارهم أن “سلاح الحزب يواجه إسرائيل وهو خارج الصراعات الداخلية اللبنانية، وأن الأولوية هي لمحاربة مَن يحتجز أموال المواطنين أي المصارف”.
كما تتهم الأوساط نفسها بعض المجموعات الراديكالية، التي شاركت في أعمال عنف عدة، لا سيما في محيط مجلس النواب، بأنهم “مندسون” تابعون لمنظومة السلطة، موضحة أن دور هؤلاء هو توتير الأجواء مع القوى الأمنية قبيل كل تظاهرة، لاستجلاب تدخل أمني، بالتالي تبرير تفريق المتظاهرين وتشويه صورتهم وإعطاء ذريعة لاستدعائهم إلى التحقيق واعتقالهم في كثير من الأحيان.
مصادر الحزب الشيوعي اللبناني تنفي الاتهامات حول التنسيق مع “حزب الله” في ما يتعلق بالانتفاضة، معتبرةً أنها تتفق مع الحزب في قضية “المقاومة” ضد إسرائيل، إلا أنها تختلف معه في القضايا السياسية، وموضوع تحييد سلاحه عن الشارع هو لاعتبارات وطنية ولقناعة “الشيوعي” بأن مسألة السلاح مرتبطة باستراتيجية دفاعية للبنان، لا يمكن معالجتها في الشارع، وذلك على عكس الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تساوي بين جميع اللبنانيين.
وجه الثورة الحقيقي
من ناحيتها، ترى الناشطة رولا تلج، أن الانتفاضة الشعبية لم تُهزم وهي مستمرة على الرغم من الظروف الصعبة التي تواجهها، لا سيما أن مجموعات كثيرة “مدسوسة” انكشفت وتبين أنها ليست سوى وجوه مقنعة لأحزاب السلطة، وتسعى لحرف مسارها إلى حيث يخدم مصلحة تلك الأحزاب، لافتة إلى أن وجه الانتفاضة الحقيقي “هو ذلك الذي رأيناه في أشهرها الأولى بطابعه السلمي والحضاري، والذي استطاع حينها إسقاط الحكومة التي كانت خاضعة لحزب الله، من دون أي ضربة كف”.
وأكدت أن الانتفاضة نجحت في إرباك زعماء المذاهب و”كارتيلات” الفساد، وفضحت ارتكاباتهم أمام الرأي العام العالمي، ونجحت في مطاردتهم حتى باتوا يخشون التواجد في الأماكن العامة بعد أن فضحت سرقاتهم، مشيرةً إلى أن لبنان يمر بمخاض عسير لا بد منه قبل ولادة لبنان الجديد.
وشددت على أن “السياديين في الانتفاضة تجرأوا للمرة الأولى على المطالبة بنزع سلاح “حزب الله”، الذي تمرس بالتقية للانقضاض على الدولة وفرض ولاية الفقيه، تارةً بالترهيب وتارةً أخرى بترغيب الكيانات المافياوية الحاكمة”، مضيفة “في الذكرى الأولى للانتفاضة لا رجوع إلى الوراء لأن أيام النظام البائد باتت معدودة، ومهما حاولوا عبر بعض المدسوسين تحوير مسار الانتفاضة، ستولد الثورة الحقيقية ومن بعدها نحن على موعد مع لبنان الجديد الحر والمستقل”.
طوني بولس
اندبندت عربي