هل تشهد الساحة الفلسطينية انجرافا عاطفيا جديداً نحو العطالة السياسية والضياع السياسي؟ تشير التصريحات والخطابات والكتابات للسياسيين الرسميين وبعض المثقفين إلى ذلك: كأن فشل المفاوضات وتشقق مواقف الدول العربية، بخصوص متلازمة السلام والتطبيع، وميوعة الموقف الدولي، لم يُبق لنا الٌا العودة الى الخطاب الوجداني القديم والذي نعلم بالتجربة أنه لم يحقق لنا شيئا، وليس كفيلاً لوحده أن يحقق شيئا في المستقبل.
نقول أننا لن نقبل إلا الحل الذي يستعيد لنا كافة حقوقنا…موقف جميل! لكننا نعلم أن هكذا حل غير معروض علينا، ولن يتأتّى سوى بالقضاء على إسرائيل. ونقول من جهة ثانية أننا لن نتنازل عن “مشروعنا الوطني” الذي يتمثل في إقامة دولة مستقلة على حدود ال ٦٧ بعاصمتها القدس الشرقية. مع ذلك نعلم بعد التجربة التفاوضية العقيمة أن هذا الحل كان بدوره مجرد وهم، ولن يتأتّى هو الأخر سوى بإلحاق هزيمة عسكرية بإسرائيل.
ببساطة، لا توجد “حلول” لنا أو أمامنا، سوى المقترحات الهزيلة، والمجحفة، التي نسمع بها والتي وإن وجدنا البعض يوما ما يقول بضرورة التعامل معها فلن يكون بمقدور “القيادة” أن تحافظ على ما تبقى لها من مشروعية وطنية إن هي قبلت بها. من جهة ثانية فإننا نعلم علم اليقين أن فلسطين الماضي اختفت عن الوجود اليوم، واختفت معها عاصمتنا المتخيّلة، كما اختفت معها الكثير من حقائق الماضي، إذ فلسطين اليوم، في ظل الدولة العبرية، هي واقع أخر، تتحكم بها وفي مصائر شعبنا دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية تتعامل مع الفلسطينيين بما يخدم حاجتها، كل مجموعة على انفراد، وإلى ما شاء ألله.
في الأثناء تتصارع فصائلنا السياسية اليوم فيما بينها للحفاظ على كياناتها وترى أن هذا الهدف لن يتحقق سوى بالوحدة والتوافق. نرجو لهذه الفصائل التوفيق كيفما كان الطريق لذلك…بانتخابات أو بدونها. بمفاوضات أو من دو نها لكن، ماذا بعد؟ أين المسار التي تريدنا هذه الفصائل أن نتقدم به؟ ببساطة وصراحة، الكلام عن “مقاومة بكل أشكالها” لا يغني ولا يسمن من جوع. هل سوف تقود مثل هكذا مقاومة الى القضاء على إسرائيل؟ أو لهزيمتها عسكريا وإجبارها على “إعطائنا” دولة الـ ٦٧؟ لا أعتقد أن العاقل منا يستطيع أن يقنع نفسه بمثل هذه التخيلات. فهي تتناقض أولا مع نفسها، ثم مع موازين القوى، كما وتتناقض وتجاربنا الماضية. إذ نحن، سيما في ظل كل ما يجري من حولنا، أمام سدّ عسكري منيع قد يلحق الأذى بنا أكثر مما يمكن لنا أن نلحق به. ليس من المسؤولية بمكان أن نُلقي بشعبنا الى التهلكة والى المزيد من تضحيات هو مستعد لتقديمها لكننا نعلم مسبقا أنها لن تزيح العدو عن مكانه، بخاصة في الظروف العربية والدولية الراهنة.
قد نسأل: ما البديل؟ الاستسلام؟ لا! هو ببساطة أن ننسى “الحلول”! فهي ليست موجودة سوى بالوهم. أن ننسى المفاوضات، فلقد ثبت انها لإلهائنا فقط. أن لا نوهم أنفسنا بمواقف صلبة خطابيا (كتلك للجامعة العربية) أو واعدة سياسيا (كتلك لاوسلو أو للأمم المتحدة) تبددها الأيام. البديل الواقعي هو تعزيز صمود شعبنا على الأرض وأن يتمسك بأرضه وبما لديه؛ فليست من مقاومة أشرف وأكفأ من تلك. أن نستملك الزمان والمكان والمعنى! أي أن نجد الحيلة للاستمرار في استنشاق الهواء! لا حاجة للصواريخ أو القيادات “العملاقة”! حاجة الإنسان منا ببساطة هي للتمكن؛ هي للعثور على الثغور في النظام التي من خلالها يستطيع النفاذ للحفاظ على نفسه حاجته لمراكمة النقاط لصالحه في صراع طويل الأمد، ايضا في الوجود على الأرض والمعنى. هي لإزالة الحواجز مهما اختلفت طبيعتها. هي للبقاء. للتأقلم حيثما اضطرتنا الحاجة. هي لتحسين ظروف الحياة والصمود والكفاح في وجه النظام الاستعماري الاستيطاني العنصري أينما وكيفما سنحت الفرصة لذلك. هي لـ أنتزاع أو “قضم” الحقوق ما استطعنا الى ذلك سبيلا، أكنّا على أرضنا من حملة جنسية إسرائيلية نناضل في الكنيست او خارجه أو كنا عمالا من غزة أو الضفة يسعون وراء لقمة العيش. أو كنا لا جئين في ارض الله الواسعة، لكن، نتمسك أيضا بوحدة شعبنا وهويته وروايته. نتمسك بمنظمة التحرير، بعد إعادة بنائها وتأهيلها وشروعها في العمل بشكلها الرسمي، على كافة الأصعدة وفي كافة المحافل الإقليمية والدولية للدفاع عن القضية الأساس…قضية شعب أغتُصبت أرضه وحُرّم من العودة اليها…
أّدرك صدمة هذا النمط في التفكير وصعوبة بل واستحالة الاسترشاد به. أدرك من جهة أخرى أيضا أن القيادات لا تريد التخلي عن مواقعها، بل وقد تجد أنفسها في مواقعها المتمسكة بها في مأزق الاضطرار للتعامل مع الضغوطات السياسية القادمة عليها. وقد تذعن لهذه الضغوطات بمبرر أو أخر تسوقه على نفسها وعلى شعبها. لكن من الخطأ أن نرفع سقف توقعاتنا عن واقعنا الزماني. في الظروف والمعطيات الراهنة، الصعبة والمعقدة والمختلة، قد لا تكون صفقة ترامب هي الأتية؛ لكنها لن تكون دولتنا المتخيلة. هيمنة إسرائيل على فلسطين ييدو أنها ستستمر، في المنظور الراهن، كيفما كان شكل “الاتفاقات الاجبارية” التي قد تأتي بها تلك الضغوطات. فإن حصلت الاتفاقات أو لم تحصل تبقى الأولوية سيما لشعبنا الموجود في أرضه، في فلسطين، كلها، أن يسعى لتثبيت أقدامه فيكون متأهبا في مستقبل ما، لا بد أن يأتي، لطيّ صفحة مؤلمة من تاريخه…مستقبل يكفل البقاء والعودة والمساواة.
سري نسيبة
ملتقى فلسطين