خفَّت أصداء تحذير الولايات المتحدة من إغلاق سفارتها في بغداد، ويبدو أن جهودًا سياسية، وإجراءات أمنية، أفلحت في تكريس نوع من الهدنة المؤقتة، لكن قضية وجود القوى المسلحة التي تعمل بمعزل عن الحكومة العراقية وإرادتها، وفشل الأخيرة في حماية البعثات الدبلوماسية، والخيارات الصعبة التي تواجه الوجود الأميركي في العراق، جسَّد هشاشة قدرة الولايات المتحدة على حماية مصالحها، وحقيقة الموقف الذي تجد نفسها فيه.
قامت القوات الأميركية خلال الشهور الماضية بترك معظم قواعدها في العراق، لتجنُّب استمرار الهجمات الصاروخية، واستقرت في قواعد محدودة ومحصنة في غرب العراق، وفي مطار بغداد، وكذلك في أربيل، لكن الهجمات وهي في الغالب ذات طبيعة بدائية، تواصلت ضد مقر السفارة، وقوافل الإمداد اللوجستي التي يتولاها مقاولون عراقيون بسيارات مدنية. تسببت بعض الهجمات بإيقاع قتلى بين المدنيين والعسكريين العراقيين، لكنها لم توقع خسائر بين الأميركيين، ومع ذلك فقد جعلت الولايات المتحدة تشعر بالحرج والقلق من الاستمرار باستهدافها، واحتمال تعرض جنود أميركيين للخطر، وهو ما يمكن أن يسبِّب ضررًا جسيمًا لصورة الرئيس، دونالد ترامب، وهو في غمرة موسم الانتخابات الرئاسية.
تسبب التلويح الأميركي بإغلاق السفارة، بقلق شديد لدى الحكومة العراقية، بسبب تداعياته السياسية والاقتصادية، وأعلنت عن اتخاذ إجراءات لمنع استمرار الهجمات. وسواء بسبب هذه الإجراءات، أو لأسباب تتعلق بوساطات سياسية، توقفت الهجمات ضد السفارة، لكنها تواصلت بشكل محدود ضد أهداف أخرى، وفي الوقت ذاته استمرت النبرة العالية لما يسمى بـ(الميليشيات الولائية) القريبة من إيران، ضد الولايات المتحدة، ومطالبتها بسحب كامل قواتها من العراق، وهو هدف تعتبره إيران أساسيًّا، ولم تكف عن تذكير حكومة بغداد بضرورة تحقيقه، منذ قيام طائرة أميركية مسيَّرة باغتيال قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، في بغداد مطلع العام الحالي.
تراجع الهجمات ضد السفارة، وتراجع حدة الهجمات ضدها، خفَّف من حدة الجدل حول غلقها، وما يمكن أن يثيره من تداعيات محتملة، لكن هذا الهدوء لم ينه التساؤلات عن الحال التي بلغتها الولايات المتحدة فعليًّا في العراق بعد أكثر من 17 عامًا من الغزو، وخسارة أكثر من 4400 قتيل ونحو 32 ألف جريح من الجنود(1)، وإنفاق نحو 2 تريليون دولار(2). بعد كل ذلك، تبدو الولايات المتحدة طرفًا عاجزًا، مهزوزًا، مستعدًّا لغلق أكبر سفاراته في العالم، ليحمي موظفيه، ويتجنب القصف بأسلحة بدائية، وهو لا يجد أمامه سوى خيارات محدودة غير مضمونة النتائج، ولها جميعًا تداعيات صعبة، فيما تبدو الحكومة العراقية التي وُلِدت من رحم العملية السياسية التي أنشأها بعد العام 2003، تعاني نفس الحرج والضعف.
مبدئيًّا، لا يمكن تفسير هذه النتيجة، بغير كونها خسارة واضحة للاستراتيجية الأميركية في العراق، وإهدار كل الخسائر البشرية والنفقات المادية، بل والمكانة التقليدية للولايات المتحدة في المنطقة. قد يكون هذا الاستنتاج قاسيًا، وربما غير مفهوم، بالنظر إلى القدرات الأميركية التي لا تزال قادرة نظريًّا على إحداث فارق حقيقي في معادلات القوة في العراق، ناهيك عن المنطقة، لكن حقائق القوة بحد ذاتها ليست معيارًا دائمًا للنصر من غير وجود استراتيجية للاستفادة منها، من أبرز معالمها في حالة العراق -حسب التصور الأميركي- بناء نظام سياسي ديمقراطي غير طائفي، يحترم حقوق الإنسان، ويكون حليفًا للولايات المتحدة، ويستطيع التعامل مع جيرانه بتوازن وندية، وأن يكون بمستوى أهمية العراق الجيوستراتيجية.
تبدو هذه النتيجة، بعيدة عن التحقق، ولا يمكن أيضًا توقع حصولها على المدى المنظور، والأكثر من ذلك، أن الولايات المتحدة وصلت إلى ما يشبه القناعات بأن تجربتها الصعبة في العراق يجب أن تنتهي، ومن اللافت أن يحصل ذلك بطريقة لم تكن تخطر وفق أكثر التوقعات تشاؤمًا، من خلال تلويح واشنطن بالخروج السياسي وغلق السفارة الأميركية، بما يعني ترك العراق تمامًا، وقطع ما تبقى من روابط تحافظ على وجود أميركي حتى لو كان معنويًّا.
قد يمكن وصف مثل هذا السيناريو الذي قد يتحقق فعلًا، بأنه هزيمة استراتيجية للولايات المتحدة في العراق، قبل ذلك كانت التجربة الأميركية هناك، قد تعرضت لنكسات كبيرة، برغم أنها بدت وكأنها نصر كبير، وفي واقع الأمر فإن واشنطن منذ عام 2003 حولت “انتصارين ظاهرين إلى هزائم حقيقية” على حدِّ قول الباحث الأميركي المتخصص بالشأن العراقي والإقليمي، أنتوني كوردسمان، وهي الآن في إطار تحويل (الانتصار) على تنظيم الدولة إلى هزيمة ثالثة، قد تكون نهائية هذه المرة. ويبدو أن جوهر الإخفاق يعود إلى أن الولايات المتحدة لم يكن لها مطلقًا استراتيجية كبيرة قابلة للتطبيق في العراق أو أي خطط وأعمال متسقة تتجاوز التعامل مع الأحداث الجارية(3).
يبدو هذا الاستنتاج صادمًا في واقع الأمر، صحيح أن العراق بلد معقد، لكن التخبط الأميركي فيه على امتداد ثلاث إدارات، كان واضحًا، لاسيما مع المقاربات الخاصة ببناء السلطة في العراق بعد الاحتلال، والاستعانة بإيران أو بالقوى المتحالفة معها، ومنحها فرص القوة والقدرة، والتغاضي عن الانتهاكات واسعة النطاق التي ارتكبتها تلك القوى، بوجود القوات الأميركية قبل الانسحاب نهاية عام 2011 أو بعد ذلك، وهو ما اعتُبرت الولايات المتحدة مشاركة فيه.
ولا يتعلق الأمر فقط بالأخطاء التي رافقت تأسيس الهياكل السياسية والحكومية في العام الأول بعد الغزو، والتي كانت تحمل في طياتها معالم الفشل اللاحق والمشكلات الجسيمة التي رافقت الحكومات العراقية المتعاقبة، بما فيها ظاهرة الفساد، لكن المشكلة الحقيقية تمثلت بالعجز عن إدراك تلك الأخطاء ومحاولة التقليل من خطورتها، برغم أن الولايات المتحدة كانت تستطيع ذلك.
تمكين إيران في العراق
في مطلع يونيو/حزيران 2004، أصدر الحاكم الأميركي للعراق، بول بريمر، الأمر 91، الذي يتضمن دمج الميليشيات الشيعية التي كانت تابعة لقوى المعارضة قبل الغزو، ضمن قوات الجيش والشرطة، وجرى منح هؤلاء رُتبًا مختلفة من دون إعداد عسكري محترف. العدد الأكبر من المستفيدين من هذا القرار كان لأفراد (فيلق بدر) وهي ميليشيا من آلاف الأشخاص أنشأتها إيران داخل أراضيها في مطلع الثمانينات من العراقيين المنشقين، وقام أفرادها بالقتال إلى جانب القوات الإيرانية ضد بلدهم العراق في حرب الخليج الأولى، كما قاموا بعمليات اغتيال وهجمات مسلحة في داخل العراق. تسبَّب ذلك الإجراء بخلق الأساس العملي لسيطرة الميليشيات المرتبطة بإيران على القيادات الميدانية في الجيش وقوات الأمن، وقد نُسب لها لاحقًا الكثير من الانتهاكات.
كان قرار بريمر مجرد نموذج لآليات تمكين إيران في العراق، فعلى المستوى السياسي، جرى وضع زعماء الأحزاب الدينية الشيعية القريبة من إيران في صدارة المشهد، كما جرى منح أفراد هذه الأحزاب ومن يواليها، مناصب في الجهاز الحكومي الجديد، على حساب الآلاف من الإداريين المحترفين الذين جرى إبعادهم من وظائفهم بدعوى اجتثاث البعث. لم يتسبب ذلك فقط ببناء النفوذ الإيراني في قلب الجهاز الإداري والعسكري والسياسي للدولة، لكنه قدَّم أيضًا رسالة مباشرة للسكان العراقيين، مفادها، أن موالاة إيران والعمل لصالحها، قد يكونان سببين للبروز السياسي، أو الحصول على وظيفة حكومية في ظل ركود اقتصادي بعد الغزو. ورغم أن هذه الرسالة كانت واضحة، ومتناقضة مع الخطاب الرسمي الأميركي غير الودي تجاه إيران، لم تقم الولايات المتحدة بعد ذلك بأية محاولة جادة لتغيير ذلك الواقع أو لتقديم انطباع مختلف للسكان، حينما كان بمقدورها ذلك.
من غير المعروف حقيقة النوايا الأميركية من وراء تلك السياسة، لكن معلومات أوردها السفير الأميركي السابق في العراق، زلماي خليل زاد، في كتابه (المبعوث) الذي صدر عام 2016، قد تقدم بعض العون لفهم ما جرى. يقول المسؤول الأميركي السابق، الذي تولى قبل العام 2003 مهمة التنسيق مع (المعارضة العراقية)، إنه التقى في جنيف قبيل الغزو الأميركي مع السفير الإيراني في الأمم المتحدة آنذاك، محمد جواد ظريف (وزير الخارجية الحالي)، وكانت مهمة المقابلة، التي جرت بموافقة البيت الأبيض، التنسيق مع ظريف لتفادي تعرض الطائرات الأميركية التي ستشارك في قصف العراق إلى النيران في حال دخلت الأراضي الإيرانية، كما أنه قام بطمأنته إلى أن القوات الأميركية لن تشكِّل خطرًا على إيران، ودعاه لحثِّ (الشيعة) على المشاركة في تشكيل حكومة عراقية جديدة.
اللافت في تلك المقابلة، كما يروي خليل زاد أن ظريف أشار عليه بضرورة أن يجري تسليم السلطة (بعد الغزو) على جناح السرعة للسياسيين العراقيين الذين يعيشون في المنفى، وإعادة بناء المؤسسات الأمنية العراقية من الصفر، كما طالب بتطهير الدولة من عناصر حزب البعث. وعلَّقت صحيفة نيويورك تايمز على طلبات ظريف بالقول: إن ذلك الرأي “بدا مصوغًا لتضخيم النفوذ الإيراني داخل العراق، وقد اختلف اختلافًا جذريًّا عن خطة خليل زاد لتشكيل حكومة عراقية انتقالية تضم عراقيين ظلوا مقيمين داخل البلد أثناء حكم صدام حسين، ولا تقتصر على قادة في المنفى”(5).
الغريب فيما ورد في هذه المعلومات، أن رؤية ظريف هي التي طغت على مواقف وإجراءات سلطات الاحتلال، وتفوقت على نظيرتها الخاصة بخليل زاد، رغم أن الأخير كان من أبرز المسؤولين عن ملف العراق في إدارة الرئيس بوش، وعمل سفيرًا لبلاده في بغداد منذ 2005 إلى 2007، ومع ذلك فهو لم يقم بإجراءات واضحة لتعديل المقاربات التي تمت منذ الغزو، لتتناسب مع رؤيته، وبدلًا من ذلك جرت خلال فترة وجوده في العراق أحداث الاقتتال الطائفي الخطيرة التي عززت مكانة إيران والقوى السياسية والمسلحة الموالية لها.
ربما يمكن تفسير سيطرة المقاربة الإيرانية، بالتحديات والمقاومة المسلحة التي واجهتها قوات الاحتلال في المناطق السُّنيَّة، وهو ما جعلها منحازة بحكم الأمر الواقع إلى حلفائها (الشيعة والأكراد)، لكن هذا التبرير سيفرض من جديد، مناقشة قرارات سلطة الاحتلال الخاصة بحل الجيش واجتثاث البعث، وطرد عشرات الآلاف من الموظفين، فضلًا عن إجراءات ومواقف استعْدَت المجتمع السُّنِّي في العراق منذ بداية الغزو، وصنعت تنميطًا طائفيًّا وعرقيًّا، وكان ذلك من بين أسباب انخراط الآلاف من العسكريين المحترفين من الجيش العراقي السابق في الفصائل المسلحة المناوئة للقوات الأميركية، وقد كان ذلك بحدِّ ذاته، نمطًا آخر لغياب الاستراتيجية الواضحة التي أسهمت في إنتاج أول “هزيمة” للأميركيين في العراق، من رحم ما اعتُبر “نصرًا” واضحًا وسريعًا لقوات الغزو في السيطرة على البلاد وإسقاط النظام السابق خلال ثلاثة أسابيع فقط(6).
بين الجهل وغياب الرؤية
من المستبعد وجود تواطؤ مقصود ومخطط له سلفًا ما بين واشنطن وطهران في العراق، فمثل ذلك يبدو خارج الحسابات الأميركية بشكل عام، لكن سياق التدخل الأميركي في العراق يشير إلى تعثر مبكر في العراق دفع إدارة بوش إلى البحث عن أية مقاربات يمكن أن توفر لها بقاء آمنًا فيما بدا أنه مستنقع يعيد كابوس حرب فيتنام. كانت تلك الإدارة تكافح لإثبات أنها لم تكذب على الشعب الأميركي حينما تبين عدم مصداقية كل مبررات الغزو، لكنها في نفس الوقت كان عليها أن تفسر سرَّ العدد الضخم من الخسائر البشرية بين جنودها، بينما كانت تقدم سردية مختلفة للغزو، تتعلق هذه المرة بنشر الديمقراطية وبعراقيين يحتفون بالقوات التي أنقذتهم من “نظام ديكتاتوري”.
كانت توابيت الجنود الأميركيين العائدة للبلاد، تتناقض مع تلك السردية، وهنا يبدو أن إدارة بوش اختارت أن تقوم بنوع من (التخادم) مع إيران التي كان الرئيس بوش قد أعتبرها أحد أضلاع (مثلث الشر) قبل أن تضطر إدارته للاستعانة بنفوذ طهران لتأسيس عملية سياسية يقبلها جزء من العراقيين، حتى لو كانت غير مثالية.
بعد الغزو، شعرت الولايات المتحدة بمشاكل الاحتلال التي لم تتحسب لها، فقد وجدت نفسها في بلد معقد، لا تفهم منه شيئًا، ولم تستعد لإدارته كقوة احتلال. وفي عام 2006، كان هناك 1000 مسؤول أميركي في سفارة بغداد، لكن 33 منهم فقط يتحدثون العربية وستة فقط يتحدثون بطلاقة، وغالبًا ما كان الأميركيون لا يفهمون الجغرافيا المحلية أو الأديان أو التقاليد أو السياسات العرقية أو اللغات(7)، لكن التراجع الفوري كان مستحيلًا، وكان لابد من بناء (صورة) نصر، توفر مصداقية للسردية الرسمية، وهنا استفادت إيران من الفرصة السانحة فقدمت حلفاءها ليمنحوا واشنطن (نصرها) مقابل تمكينهم في المؤسسات السياسية والأمنية والحكومية، ومن خلفهم إيران بطبيعة الحال، وهو سياق تواصل لاحقًا خلال إدارة أوباما، وكانت مظاهره تتعزز كل يوم حتى أصبحت واشنطن مهتمة بالخروج الآمن فقط، وترك العراق لما آل إليه، وهو ما حدث مع نهاية العام 2011.
لقد قدم الغزو الأميركي وما تلاه لإيران تفوقًا استراتيجيًّا مهمًّا وخطيرًا في المنطقة. ربما لم تكن واشنطن تقصد هذه النتيجة، لكن ذلك هو ما حدث، وقد كان لدى طهران الوقت والفرص والأفضلية المطلقة، لتوفر ظروفًا مناسبة لتحقيق ذلك، وهو ما منحها الأريحية لتبدأ منذ عام 2007 بالحديث عن “المأزق الأميركي” في العراق، و”انهيار سطوة المحتلين”، قبل أن يعلن رئيسها آنذاك، أحمدي نجاد، استعداد بلاده لملء الفراغ الذي سيتركه الأميركيون وراءهم في العراق(8).
صدرت هذه التصريحات في ذروة الوجود الأميركي في العراق بأكثر من 150 ألف جندي، ولم يصدر عن واشنطن ردَّة فعل، باستثناء استمرار الاتهامات لطهران بإرسال أسلحة للميليشيات في العراق تقتل الجنود الأميركيين. ومع ذلك، فبعد بضعة أشهر، زار نجاد بغداد وأجرى استعراضًا لحرس الشرف وسط المنطقة الخضراء التي كانت تخضع بالكامل لسيطرة القوات الأميركية، وأطلق من هناك تصريحات جديدة ضد الأميركيين واعتبر أنهم مهزومون وطالب بانسحابهم(9).
من التخادم إلى المواجهة
بعد سحب قواتها في ديسمبر/كانون الأول 2011، عادت الولايات المتحدة عسكريًّا إلى العراق في عام 2014 بطلب رسمي من حكومة نوري المالكي للمساعدة في وقف زحف تنظيم الدولة الذي كان سيطر على مدينة الموصل ونحو ثلث الأراضي العراقية، وبدأ بتهديد بغداد. أسهم التدخل الأميركي لاسيما المساندة الجوية بشكل فاعل في مواجهة التنظيم، ثم في عمليات استعادة الأراضي، وهي المهمة التي اكتملت قبل نهاية العام 2017.
اعتُبرت المشاركة الأميركية فعالة وأساسية، وقد فرض التنسيق العسكري ضرورة التشاور المستمر بين الضباط الأميركيين والقوات العراقية الأرضية التي كان من بينها أفراد الميليشيات المرتبطة بإيران وقد أصبحوا ضمن التشكيل الجديد الذي سُمي الحشد الشعبي، وكذلك المستشارون الإيرانيون الذي شاركوا مع القوات البرية العراقية، ومن أبرزهم قاسم سليماني الذي كان دأب على التقاط صور له وهو داخل العراق، يقود ضباطًا عراقيين في بعض المعارك، ويحظى بدعم جوي كان على الأغلب أميركيًّا.
جرى معظم القتال ضد تنظيم الدولة خلال فترة الرئيس أوباما، وكانت العلاقات الجيدة مع طهران، لاسيما بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، توفر مناخًا مناسبًا لمثل هذا التنسيق، وهو ما لم يتغير بشكل ظاهر للعيان على الأقل بعد تولي الرئيس، ترامب، وبدء الخلاف مع إيران.
ترافق انهيار تنظيم الدولة في العراق وسوريا، مع بروز الخلاف الأميركي-الإيراني، وتصاعد مع خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/أيار 2018، وبدء إدارة ترامب بفرض ما سُمي بسياسة (الضغط الأقصى) على طهران. منذ ذلك الوقت، توقفت عمليًّا سياسة (التخادم) في العراق والهدنة الطويلة نسبيًّا بين الطرفين بحكم الأمر الواقع.
كانت مقاربة التصعيد التي اعتمدتها إدراة ترامب مفهومة في إطار النظرة الى السياسات الإيرانية في الملفات الإقليمية بشكل عام، وكذلك بسبب زيادة الاحتكاك الخشن بين طهران والعواصم العربية الحليفة لواشنطن، لكن التصعيد الأميركي واجه على الفور معضلة حالة ضعف النفوذ الأميركي الذي ورثته إدارة ترامب في العراق قياسًا بالنفوذ الإيراني. طوال السنوات منذ 2003، تجاهلت الولايات المتحدة، أو أنها لم تتعامل بجدية مناسبة مع اختلال ميزان قوة النفوذ لصالح إيران، وكان ذلك سببًا مباشرًا لتحول العراق إلى ساحة (معادية)، حتى لو اعتقدت واشنطن غير ذلك.
اعتبرت إيران على الدوام أن العراق هو الساحة الأفضل لإيصال رسائلها الناعمة أو الخشنة إلى الولايات المتحدة، وحينما سُئل الرئيس الإيراني الراحل، هاشمي رفسنجاني، يوم كان رئيسًا لمجمع تشخيص مصلحة النظام بعد غزو العراق بقليل، عن الحصار الأميركي العسكري لإيران من الشرق في أفغانستان ومن الغرب في العراق، أجاب: “من يحاصر من؟”، ويعلق كوردسمان على هذه الرؤية بقوله: “أراد السيد رفسنجاني أن يقول: إن وجود حوالي 140 ألف جندي أميركي في العراق يجعل هؤلاء الجنود (مشروع رهائن) بالنسبة لإيران التي بات في مقدورها استخدام هؤلاء الجنود كورقة ضغط على واشنطن”(10).
استثمار الفرصة السانحة
كان لدى إيران استراتيجية واضحة للاستفادة القصوى من الغزو الأميركي للعراق، قابلها أخطاء أميركية متتالية، أوصلت الحال إلى الوضع الراهن، حيث باتت المصالح الأميركية في الشرق الأوسط عرضة للتهديد الجدي، مع خيارات ممكنة لكنها صعبة وقد لا تكون مؤكدة النجاح.
لكن استمرار (نجاح) إيران في العراق هو أيضًا لم يعد مؤكدًا، بل صار موضعًا لشكوك واقعية مع ما باتت تواجهه من تحديات جدية هناك. تكرَّس هذا الوضع الجديد، منذ بدء الاحتجاجات الشعبية قبل أكثر من عام فيما عُرف بـ(انتفاضة تشرين)، تمركزت هذه الاحتجاجات في بغداد ومناطق الجنوب ذي الأغلبية الشيعية، وهي البيئة الحاضنة المفترضة للقوى السياسية، والفصائل المسلحة المدعومة من إيران.
رفعت الاحتجاجات التي ما زالت مستمرة، شعارات مناوئة لإيران وحلفائها في العراق، وسقط من بين المحتجين مئات القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، في مصادمات مع قوات الأمن وعمليات قنص، واغتيالات مخطط لها استهدفت قادة الاحتجاجات، ونتيجة لضغط الشارع، سقطت حكومة عادل عبد المهدي التي تميزت بالقرب من طهران، وتولَّى رئيس المخابرات، مصطفى الكاظمي، رئاسة حكومة جديدة. قدَّم الكاظمي خلال الشهور الخمس الماضية منذ تكليفه، انطباعًا بأنه أكثر استقلالية عن إيران، وأكثر ميلًا لتحدي أذرع إيران التقليدية في العراق، وأبرزها الأحزاب السياسية والميليشيات، وقوى الدولة العميقة التي تغذيها آلة الفساد المستشرية في البلاد. قد يكون الكاظمي فرصة لبناء مقاربة حكم جديدة في العراق أكثر توازنًا واستقلالًا، أو على الأقل البدء فيها، ولذلك اعتبر تلويح واشنطن بغلق سفارتها في بغداد، تهديدًا مباشرًا بسقوط هذه الحكومة، ونوعًا من التفريط بفرصة قد تكون أخيرة، لتلافي خسارة العراق تمامًا.
ورغم هذا الوضع الذي يهدد النفوذ الإيراني، إلا أنها ما زالت تبدو في هذه المرحلة، أكثر اهتمامًا بالتصعيد من أجل (طرد) القوات الأميركية، من انشغالها بالسيطرة على التحديات المستجدة التي باتت تواجهها في العراق. ما زالت طهران مسكونة برغبة الانتقام لمقتل سليماني والمهندس، ومن بين ما تسعى له، التدخل في الموسم الانتخابي الأميركي، للتأثير على حظوظ الرئيس ترامب، في البقاء في البيت الأبيض، وهو ما يجري في العراق، من خلال الهجمات المسلحة.
ليس مؤكدًا بالطبع أن يصبح المرشح الديمقراطي، جو بايدن، صديقًا لإيران، لكن تاريخه كنائب سابق للرئيس أوباما، ووعوده الانتخابية، تجعل منه أقرب إلى انتهاج سياسة أكثر نعومة مع إيران، بما في ذلك احتمال إعادة بلاده للاتفاق النووي، وتخفيف الحصار، وانتهاج مقاربات مختلفة مع الحلفاء في الخليج العربي، ولو حصل ذلك، فربما تفكر طهران أنها ستكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات السياسية والشعبية التي باتت تواجهها في العراق.
غير أن الانتخابات الأميركية ونتائجها أكثر تعقيدًا من التأثر بضغوط الميليشيات الموالية لإيران في العراق، ولذلك فليس محتملًا أن يكون للهجمات على المصالح الأميركية أثر على قرارات الناخبين الأميركيين، لكنها من جانب آخر، ومهما تكن هوية الفائز بالبيت الأبيض، تعيد تقييم مجمل نتائج غزو العراق، وتأثيراته المدمرة، سواء للعراق أو لمنطقة الشرق الأوسط، أو للولايات المتحدة ذاتها.
بغضِّ النظر عن هوية الإدارة الأميركية القادمة، فإن (تصحيح) سنوات طويلة من الأخطاء في العراق، يتطلب انتهاج مقاربة بنَّاءة، لن تتضمن حلولًا عسكرية مكلفة، وربما مدمرة، ولا ضغوطًا اقتصادية طويلة الأمد قليلة الفعالية على الأغلب، وليس بطبيعة الحال ترك العراق بالكامل. المقاربة الواقعية الأكثر فعالية هي مساعدة الشعب العراقي على إنتاج سلطة جديدة في انتخابات نزيهة وعادلة وذات مصداقية. سيكون من المهم للغاية دعم القوى الشابة في العراق، لتكون بديلًا وطنيًّا مقبولًا، لقوى سياسية فاسدة، وغير كفؤة، منقادة لقوى أجنبية مختلفة. وسيكون ضروريًّا، دعوة المجتمع الدولي لمراقبة ما يجري في العراق عن كثب لمنع استخدام القمع والقوة المسلحة من قبل الميليشيات ضد المحتجين، وفضح أية محاولات من قبل الأحزاب التقليدية وأجنحتها المسلحة، لتزييف الانتخابات المبكرة المقررة في يونيو/حزيران المقبل (2021).
لن يكون تدخل أميركا المباشر في الشأن العراقي مفيدًا لأحد، وهو أثبت في كل الحالات السابقة آثاره السيئة، لكن أي جهد أميركي لحث المجتمع الدولي على تأييد الإرادة الشعبية، ودعم جهود الحكومة في محاربة الفساد، ونزع سلاح الميليشيات، والتخلي تمامًا عن التعامل مع العراقيين بتقسيمهم إلى طوائف وأعراق، ذلك، سيكون خطوة جوهرية، لبناء مقاربة ناجحة، والتوقف عن إعادة إنتاج الفشل.
لقاء مكي
مركز الجزيرة للدراسات